محنة المذهــب الحنبلــي
(لا تكنزوا لكم كنوزاً
على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ،
وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بلْ اكنزوا لكم
كنوزاً فى السماء
حيث لا يفسد سوس ولا صدأ، وحيث لا ينقب
سارقون ولا يسرقون،
لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضا) من موعظة السيد المسيح على الجبل؛
كان الإمام/
أحمد بن حنبل- محدّثاً جليلاً، جمع واحداً من أكبر مسانيد الحديث النبوي الشريف،
وهذا المسند؛ تضمن متوناً لا يمكن قبولها، وكثير من مروياته لا أصل لها، ومن واجب
العلماء أن ينبهوا إليها. لذا؛ يقول
عبدالله بن الإمام/ أحمد بن حنبل- عن مسند أبيه: «هذا المسند أخرجه أبي رحمه الله
تعالى من سبع مائة ألف حديث، وأخرج فيه أحاديث معلومة، بعضها ذكر عللها، وسائرها
في كتاب «العلل»، لئلاَّ يخرج في الصحيح". وسأله –أيضاً- عن أحاديث ومرويات
مغلوطة، فقال رحمه الله: "يا بنيّ؛ قصدتُ في المسند الحديث المشهور، وتركتُ
الناس تحت ستر الله، ولو قصدتُ ما صحَّ عندي لمْ أروِ هذا المسند إلاَّ الشيء بعد
الشيء، ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث لستُ أخالف ما فيه ضعف إذا لم يكن في
الباب شيء يدفعه».
هذا؛ وقد روى
الإمام/ أبو الفرج ابن الجوزي- حكاية صغيرة؛ تكشف عن محنة "المذهب
الحنبلي" ومدى ما أصابه من الاختلاق والتلفيق والتدليس، بلْ تكشف عن
"سِر المعبد الحنبلي" وحجم الأساطير التي نسجها كهنة المعبد وأحباره ..
فضلُّوا وأضلوا كثيراً من المغفَّلين! قال: "صلَّى أحمد بن حنبل ويحيى بن
معين في مسجد الرصافة، فقام قاصٌّ فقال: حدثنا أحمدُ بن حنبل ويحيى بن معين...
(وأخذ يسرد قصة طويلة)؛ فنظر أحمد إلى يحيى، ونظر يحيى إليه، فقال أنت حدثته؟!
قال: لا واللهِ. فلمَّا فرغ؛ قال له يحيى: تعال من حدَّثك بهذا؟ فأنا ابن معين
وهذا أحمد؛ فإنْ كان ولابدّ فالكذب على غيرنا. فقال: أنت يحيى بن معين؟! قال: نعم.
قال: لمْ أزل أسمع أنك أحمق ما علمتُ إلى الساعة! كأنه ليس في الدنيا يحيى بن معين
وأحمد بن حنبل غيركما؟! فقد كتبتُ عن سبعة عشر أحمد بن حنبل غير هذا، فوضع ابن
حنبل كمه على وجهه، وقال دعه يقوم فقام كالمستهزئ بهما. (لسان الميزان للذهبي
1/79، سير أعلام النبلاء 11/300، تاريخ دمشق 65/26، المجروحين لابن حبان 1/85،
تهذيب الكمال 31/559).
من هنا
نعلم؛ أنَّ الإمام يذم الكتب والرأي، ويطالب بالاكتفاء بالحديث، ويرى أنَّ مَن
يصنِّف الكتب مبتدعاً، ويترك لنا ميراثاً علمياً هو المسند والعلل والسؤالات،
وجميعها ترتبط بالحديث رواية ودراية ... فما تفسير وجود المذهب الحنبلي وأصوله
ومصنفاته؟!
إننا لا نكاد نجد تفسيراً لِما حَدَثَ باستثناء تفسير
يدعو للعجب والسخرية عند ابن القيم، حين يقول: "الإمام أحمد شديد الكراهة
لتصنيف الكتب، وكان يحب تجريد الحديث ويكره أن يكتب كلامه، ويشتد عليه جدا؛ فعلم
الله حسن نيته وقصده؛ فكُتِبَ من كلامه وفتواه أكثر من ثلاثين سفرا، ومنَّ الله
سبحانه علينا بأكثرها فلم يفتنا منها إلاَّ القليل، وجمع أبو بكر الخلال البغدادى
نصوصه في الجامع الكبير فبلغ نحو عشرين سفراً أو أكثر، ورويت فتاواه ومسائله،
وحُدِّثَ بها قرناً بعد قرن، فصارت إماما وقدوة لأهل السنة على اختلاف
طبقاتهم". (إعلام الموقعين1/28). الحمد لله؛ أنَّ "ابن حنبل" كان
حسن النية، يكره التصنيف ابتغاء مرضاة الله! لكن؛ مع كراهيته للتصنيف؛ فقد جُمِعَ
ثلاثون سفراً من آرائه .. فماذا –يا ترى- لوْ كان "الإمام" سيء النية،
ويحب التصنيف؟! لكن "ابن تيمية" وجدناه يخالف ما ذهب إليه ابن القيم
-الذي يرى أنه لم يفتنا من أقواله إلاَّ القليل؛ فيقول: "كلام أحمد كثير
منتشر جداً، وقلّ من يضبط جميع نصوصه في كثير من المسائل، لكثرة كلامه وانتشاره،
وكثرة من يأخذ عنه العلم. فأبو بكر الخلال قد طاف البلاد، وجمع من نصوصه في مسائل
الفقه نحواً من أربعين مجلداً، وفاته أمور كثيرة ليست في كتبه". (جامع
الرسائل 3/400).
وإذا نظرنا
إلى القرون التالية لرحيل الإمام أحمد، وجدنا أمامنا تلالاً من المصنفات الفقهية
لمذهبه؛ وهي مصنفات أطلقت لأقلامها العنان لتنسب إلى الإمام أحمد كمَّاً ضخماً من
الفتاوى، تختصرها تارة وتشرحها تارة، وهذه المصنفات تخالف أهم ما كان يميز الإمام؛
وهو العناية بالدليل، فالرجل الذي كان يطلب أن تجرد الكتب من كل شيء إلاَّ الحديث،
ينسب إليه الرأي زوراً وتنزع الأدلة انتزاعاً. فاقرأ مثلاً (مختصر الخرقي) لمؤلفه
عمر بن محمد الخرقي (المتوفى 334هـ) وهو أقدم كتب المذهب الموجودة، فلا تكاد تجد
فيه دليلاً.
كذلك فعل الحجاوي (المتوفى 968هـ) في كتابه (زاد
المستقنع في إختصار المقنع) فهو لم يختلف عن سابقه، لكنه ضجر من كثرة الأقوال
المتضاربة والمسائل الجدلية في مذهب الإمام أحمد؛ فعمل على اختيار الراجح منها؛
فقال في مقدمة كتابه: "هذا مختصر في الفقه من مقنع الإمام الموفق أبي محمد
على قول واحد وهو الراجح في مذهب أحمد، وربما حذفتُ منه مسائل نادرة الوقوع وزدتُ
ما على مثله يعتمد، إذا الهمم قد قصرت والأسباب المثبطة عن نيل المراد".
أمَّا عن التناقضات في المذهب الحنبلي، فقد تعرض لها
كثير من المؤلفين، وصنفت لها بعض التصانيف؛ ككتاب (الانصاف في معرفة الراجح من
الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل) لعلاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان
المرداوي.
ومن أراد أن
يعرف أطنان المتون، ثم شروح المتون ثم اختصار الشروح، ورصد ما فيها من تناقضات في
الأقوال وتضارب في الفتاوى والاحتجاجات والترجيحات، سيكتشف أن المذهب الذي بين
أيدينا ينشعب إلى مذاهب متعددة، وهي بالتأكيد تشعبات لا علاقة للإمام الجليل بها!
والعجيب أن ابن
القيم عندما يتحدث عن أصول المذهب الحنبلي في (إعلام الموقعين 1/28) ويبني كلامه
على أمثلةٍ لتراثٍ يتكون من (كتاب ضائع) للخلال!! وعشرات المجلدات التي حملت فتاوى
وآراء نسبت ودونت للإمام أحمد بعد قرونٍ من رحيله بلا إذنٍ منه، وفي مخالفة صارخة
لرغبة الإمام في عدم تدوين شيء من آراء الناس وعدم تقليد أحد من العلماء أياً كان!
وحين نتحدث عن الأصول التي بنى عليها الإمام أحمد فقهه!!
فإننا نجد للسلفيين مبرراً مضحكاً يدافعون به عن عبثهم باسم الإمام، ومبرراً
لتدليسهم، ومبرراً لاختلافهم فيما بينهم؛ فالجميع في هذه الحالة يرفعون شعاراً
يقول: إنهم يقومون بالفتوى في إطار الأصول الفقهية للإمام أحمد!! وهي الأصول التي
لا يعرف عنها الإمام أحمد شيئاً، بناءً على الفتاوى التي لم تثبت عنه، من خلال
الكتب التي لم تصل إلينا!!
لقد كان مدوِّنو
التراث الحنبلي بعيدين كل البعد عن مباديء الإمام أحمد، كما كانوا بعيدين بعداً
كبيراً عن قناعاته ومنهجه وعلمه؛ فعلى الأقل كان ينبغي أن يكون الفقيه الحنبلي
ملماً بأقوال الإمام أحمد في الحديث وعِلله، وهذا لم يحدث، فكثيراً ما تكون للإمام
أحمد أقوالٌ مشهورة ومثبتة، وليس لها صوت أوْ صدى في كتب المذهب الحنبلي!
على سبيل
المثال؛ سار بعض المصنفين الذين أخذوا على عاتقهم حمل أمانة آراء الإمام أحمد
الفقهية إلى القول بسنَّة (صلاة الاستخارة) والعجيب أن أحمد قد ضعَّف هذا النص؛
حيث قال أبو طالب، عن أحمد (وهو يتحدث عن راوي الحديث: عبد الرحمن بن أبي الموال):
كان يروى حديثاً منكراً عن ابن المنكدر، عن جابر فى الاستخارة ليس أحد يرويه غيره!
المهم؛ أن أحداً من مصنفي التراث الحنبلي لم يطلع على أقوال أحمد المنثورة في
الكتب المتداولة بين أيديهم. فأحمد يضعِّف هذا الحديث، ويذكر هذا غير واحد من
المؤلفين... ولكن لا حياة لمن تنادى!
أمَّا المثال
الثاني؛ فهو مسألة (تخليل اللحية) في الوضوء، فقد أقرَّت سُنِّيَتَهَا تقريباً
جميعُ كتب الفقه الحنبلي؛ المتون والشروح والاختصارات، غير أن أحمد نفسه غير موجود
في جميع هذه الحوارات؛ على الرغم من قول عبد الله بن أحمد: "سمِعتُ أبِي يقول
لا يثبت، عن النبيّ (ص) في تخليل اللحية حديث. (علل الحديث لابن أبي حاتم 1/45).
ومن شاء أن
يستقصي من الأمثلة ما يدل على البون الشاسع بين الإمام أحمد من جهة، والمذهب
الحنبلي ومصنفاته من جهة أخرى، ويعدد المسائل المتعارضة والمتضاربة بين الإمام
ورجال المذهب المنسوب إليه، فعليه بكتابه (العلل)، والسؤالات التي سألها تلاميذه
له، والوقوف على أقواله الثابتة عنه في نقد النصوص في المؤلفات الأخرى، ثم إعادة
عرض هذه النصوص على الباب الفقهي المناسب في كتب المذهب، وسيحظى بكومة كبيرة،
وحمولة ثقيلة! أكثر متعة وجاذبية من مثالي الاستخارة وتخليل اللحية!! مما يدل على
أن الإمام أحمد لم يكن له علاقة بالمذهب الحنبلي؛ لا من ناحية التدوين الذي كان يذمه،
ولا من جهة الآراء الفقهية التي احتشدت في المذهب، ولا من جهة الأصول التي وضعت له
وهو لا يعرف عنها شيئاً!!
* * *
الحق
أقـول: إنَّ الإمام/ أحمد- ظُلِمَ ظلماً كبيراً من دعاة السلفية، حين نسبوا
إليه مذهباً، وتقوَّلوا عليه بما لمْ يقله، وتاجروا باسمه، وتربَّحوا بمسنده،
نَسخاً وطباعةً، وثرثرة وضجيجاً!
لقد كان –رحمه
الله- إماماً لمدرسة النقل، ويمثّل النقيض الصريح للتيار العقلاني، فعداؤه للفلسفة
اليونانية قاده إلى معاداة علم الكلام الإسلامي، وتجريح جميع المتكلِّمين، ونفوره
من العقلانية وقف به عند النصوص وحدها، بلْ عند ظواهرها. فلم يكن الإمام أحمد
–بداهة- فيلسوفاً ولا متكلماً، بلْ لم يكن في الحقيقة فقيها، إنما صاغ أصول المنهج
النصوصي المعتمد على الأخبار وحدها، والرافض لِما عدا النصوص من أدوات التفكير
والبحث والبرهان. ولعلَّ أركان منهجه الخمسة التي يحددها الإمام ابن القيّم تجعل
محوره الأول تقريباً هو النصوص، فالأصل الأول: النصوص. والأصل الثاني: ما أفتى به
الصحابة، وهي نصوص. والأصل الثالث: إذا اختلف الصحابة تخيّر من أقوالهم نصاً من
النصوص. والأصل الرابع: الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف، وهي نصوص، يأخذ بها مع
ضعفها، ويترك ما عداها من سبل الاستهلال. والأصل الخامس: القياس للضرورة، إذا لم
يكن عنده في المسألة نص، ولا قول الصحابة، أو واحد منهم، ولا أثر مرسل أو ضعيف.
فالنصوص وحدها
هي العلم عند هذه المدرسة، ولا عِبرة بالرأي، ولا مدخل له فيها، حتى لوْ أدتْ
ظواهرها إلى التجسيم والتشبيه في حق الذات الإلهية! وتبعاً لهذا المنهج النصوصي
الحرفي؛ رفض الإمام أحمد الرأي والقياس، إلاَّ عند انعدام النصوص، ولوْ الضعيفة،
وبشروطٍ تجعله معدوماً، ومن ثمَّ؛ فقد رفض التأويل، والذوق، والعقل، والسببية، وكل
ما عدا ظواهر النصوص من أدوات الاستدلال! لذلك استقطب هذا التيار قطاعاً عريضاً من
العامة والدهماء، بحكم القصور الفكري الذي يقف بهم عند المحسوس، وظواهر النصوص!
لذا يقول العارفون: لولا محنة الإمام أحمد ما انتشرتْ
آراؤه النصوصية، ولا راجتْ هذه المدرسة التي تصادم العقل، وتجافي مرونة التشريع
الإسلامي الحنيف!
* * *
ولا عجب أنْ نرى
المدارس السلفية؛ أهملتْ الكتاب الكريم وعلومه، وقنعوا من العلم بنقل الأقوال
والمذاهب وتقعيدها وتأصيلها والجدال عنها، والتفريع عليها، والتخريج منها في أحسن
الأحوال!
واستمر الانحدار، واشتد الخلاف وتعمق ونشأت بعد ذلك
أجيال على التقليد المحض، فركدتْ حركة الفكر، وذوتْ شجرة الاجتهاد، وانتشرت الفتن،
وعم الجهل، وأصبح الفقيه العالِم –في نظر الناس- هو ذلك الذي حفظ جملة من أقوال
الفقهاء وتزود بعدد من الآراء، دون تمييز بين قويها وضعيفها، وصار المحدّث من حفظ
جملة من الأحاديث صحيحها وسقيمها.
من
هنـــا؛ كيف بدأ الجمود والتخلف والانكسار والتراجع الحضاري المذهل، حتى وصلتْ
الأمة إلى هذه المرحلة؛ التي ضحكتْ منها الأمم!
j
0 التعليقات:
إرسال تعليق