أنبياء الله في مصر..هاجر عليهما
السلام بنت المصريين القدماء
تمثل السيدة هاجر عليها
السلام صورة ما كان عليه قومها المصريون القدماء من توحيد خالص وإيمان عميق، فكانت
عليها السلام سيدة عظيمة ومهيبة ([1])
ونبيلة سليلة المجد، ونبتة أرض الإيمان، وكانت واحدة من الحرائر المصريات المؤمنات
الموحدات اللاتي وقعن في أسر الهكسوس أولئك البدو الوثنيين الأجلاف، عبدة النجوم
والكواكب والأصنام،وكانت عليها السلام من مدينة الفرما تقع على مقربة من عاصمة
الهكسوس أواريس([2]).
تزوجت السيدة هاجر
عليها السلام بسيدنا إبراهيم عليه السلام وعمرها أربعة عشر عاما([3])،
وعندما حملت في نبي الله إسماعيل عليه السلام غارت([4]) منها ضرتها سارة –
التي كانت عاقرا – فصبت عليها كل صنوف القهر والإذلال([5]).وتذكر التوراة أن هاجر
كانت تشكو ذلتها إلى الله([6])
هكذا قالت التوراة.
إذن لم تشكو السيدة
هاجر بنت المصريين القدماء إلى الآلهة، ولم تلجأ إلى صنم، وأنما التجأت في شكواها
إلى الله الواحد الأحد..وليس ذلك من تأثير زواجها من نبي الله إبراهيم عليه
السلام..فكم من زوجات أنبياء كن كافرات وثنيات، مثل زوجة نوح عليه السلام، وزوجة
لوط عليه السلام، يقول تعالى: {..ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا
اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا
صَالِحَيْنِ }(التحريم:10).
إذن لو لم يكن الإيمان متأصلا في نفسها، وضاربا
بجذوره في أعماق قلبها من الأصل، ومنذ نشأتها الأولى في وسط أهلها من القدماء
المصريين، ولو لم تكن قد نشأت على التوحيد، وتشربته ، لما كان هذا هو مسلكها.
وتذكر التوراة أن الله
سبحانه وتعالى قد سمع لشكوى هذه المقهورة الصابرة :"للأن الرب قد سمع
لمذلتك.."([7])..فأرسل
أحد ملائكته ([8])
يواسيها ويعدها بحسن الجزاء من الله([9]).
فأي شرف وأي تكريم بعد هذا؟
فاحتملت الصبية المصرية
حتى ولدت إسماعيل عليه السلام، وعندئذ لم تلبث الغيرة أن دبت في قلب السيدة سارة،
فأصبحت لا تطيق النظر إلى الغلام، ولا تحتمل رؤية هاجر،وطلبت من سيدنا إبراهيم أن
يبعد عنها الطفل وأمه بحيث لا يصل صوتهما إلى سمعها ولا تقع عليهما عينيها.. ([10]).
وتمضي التوراة في
استكمال أحداث قصة المصرية الصابرة وتقول:" فبكر إبراهيم صباحا، وأخذ خبزا
وقربة ماء وأعطاهما لهاجر واضعا إياهما على كتفيها والولد،وصرفها.." ([11]).
ويواصل المؤرخون رواية
ماحدث لحظة أن تركها إبراهيم عليه السلام – هي ووليدها – في الصحراء – بوادي غير
ذي زرع – ثم استدار منصرفا:" فقالت هاجر: يا إبراهيم إلى من تكلنا؟.قال:إلى
الله..قالت:إنطلق،فإنه لن يضيعنا.." ([12]).
" إنطلق .. فإنه
لن يضيعنا.." هذا ما قالته هاجر عليها السلام تلك الصبية المصرية، فهل بعد
هذا ثقة في الله وتوكل عليه..كلمات تخرج من هذه الشفاة المصرية دروسا وعبر.امرأة
شابة – ومعها رضيعها – تترك وحيدة في صحراء قفراء لا زرع فيها ولا ماء تواجه كل
احتمالات الموت البشع،عطشا وجوعا، أو افتراسا من وحوش القفار، أو بلدغة تعبان أو
عقرب،أو حتى الموت رعبا عندما يجن عليه ليل الصحراء الموحش..وبرغم هذه الاحتمالات
المرعبة، نراها عندما قال لها زوجها:"إن الله هو الذي أمره بذلك "([13])
نزلت السكينة على قلبها، وتفجر إيمانها العميق في كلمات تضرب أروع مثل في تاريخ
البشرية للتوكل على الله والثقة المطلقة فيه اللانهائية..أين من يمكن أن يحل بهذا
المحل، ويصل إلى هذه الدرجة الرفيعة من الإيمان والتوكل على الرحمن؟
وقد صدق ابن كثير عندما
هذا الموقف كثيرا وتأمل فيما نطقت به هذه المصرية طويلا، ثم علق
قائلا:"فحاطهما الله – أي هاجر وإسماعيل – بعنايته وكفايته، فنعم الحسيب
والكافي والوكيل والكفيل..ولكن أين من يفتطن لهذا السر؟ وأين من يحل بهذا المحل؟
والمعنى لا يدركه ولا يحيط بعلمه إلا كل نبيه نبيل " ([14]).
ويواصل الطبري رواية
ماحدث :"..حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى ،
فانطلقت فوجد الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر
هل فيه من أحد؟ فلم تر، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت
سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة، فقامت عليه ونظرت هل ترى من
أحد؟ فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات"([15])..وعن ابن عباس رضي
الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" فذلك سعي الناس بينهما"([16]).
فلما أشرفت السيدة هاجر
عليها السلام على المروة سمعت صوتا، فإذا هي بالملك - جبريل عليه السلام - عند
موضع زمزم، فبحث بعقبه حتى ظهر الماء وجعلت هاجر تغرف من الماء في سقائها وهو يفور
بعدما تغرف ([17]).
وبعدما ارتوت جلست بجوار بئر زمزم حيث استقرت،وبذلك كانت هذه المصرية أول من أقام
واستوطن في مكة.
ثم تصادف – بعد ذلك –
جماعة من البدو، فرأو البئر – وللأبار أهمية قصوى في الصحراء – فاستأذنوا هاجر في
الإقامة بجوارها، ثم استقدموا بعد ذلك باقي أفراد قبيلتهم، وهكذا تكاثر سكان
المنطقة، فأنسوا وحشة هاجر ووليدها، وكانوا أول جيرانها([18]).
ووضع الله في قلوب
أولئك البدو مودتها، فحاطوها برعايتهم هي وابنها..ثم امتد ذلك الود إلى ابنها
سيدنا إسماعيل عليه السلام فيما بعد.يقول تعالى:{.. رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ
مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ
رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي
إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}(إبراهيم:37).
هكذا نشأة المدينة
المقدسة، فكانت هاجر عليه السلام السيدة المصرية نواتها الأولى وأول من سكنها
واستطونها وإليها ولطفلها تفجر ماء زمزم .
مكانة فضائل
بنت المصريين القدماء عند المسلمين:
السيدة هاجر عليها
السلام أثيرة عند الله سبحانه وتعالى، وعزيزة على كل مسلم، فهي زوجة نبي الله
إبراهيم عليه السلام، وأم نبي الله إسماعيل عليه السلام، وجدة رسول الإسلام نبي
محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرها حفيدها في مجال التعظيم والتكريم، بل أوصى
بإكرام كل أهل مصر إكراما لها، فعن ابن إسحق قال . قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:" إذا فتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيرا ، فإن لهما ذمة ورحما " قال
ابن إسحق، فسألت الزهري: ما الرحم التي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال:كانت هاجر أم إسماعيل منهم.." ([19]).
كما أن السيدة هاجر من
آل إبراهيم الذين يذكرهم كل مسلم في كل صلاة، وهي التي يجب أن يذكرها كل مسلم يؤدي
فريضة الحج فليتذكر حين يدخل مكة أن أول من سكن مكة واستوطنها السيدة هاجر بنت القدماء
المصريين.. وليتذكر حين ينظر إلى الكعبة أن أول مبشرة بإقامتها – من قبل أن تقام –
وعرفت مكانها([20])
هي السيدة هاجر بنت القدماء المصريين.. وليتذكر وهو يسعى مهرولا بين الصفا والمروة
أن ما يفعله هو محاكاة لما فعلته – لأول مرة – السيدة هاجر بنت لقدماء المصريين..
وليتذكر كل مسلم يشرب من ماء زمزم أن التي تفجر هذا البئر من أجلها هي السيدة هاجر
بنت القدماء المصريين، وكانت أول من رأى ماء زمزم، وأول من اغترفت منه وشربت.
إسماعيل
عليه السلام في أحضان المصريين القدماء:
لم يعايش إسماعيل أبيه
إبراهيم عليهما السلام – الذي تركه في وادي مكة رضيعا ولم يكن يزوره إلا من حين
إلى حين([21]).وبذلك
نشأ سيدنا إسماعيل عليه السلام في أحضان أمه السيدة هاجر عليها السلام التي هي
واحد من نساء المصريين القدماء، ثم لما كبر زوجته أمه واحدة من قومها من القدماء
المصريين، حيث تقول التوراة:" وسكن في برية فاران..وأخذت له أمه له زوجة من
أرض مصر"([22])،
ومن هذه الزوجة المصرية أنجب سيدنا إسماعيل جميع أبنائه الاثنى عشر ([23]).
ولم تكن مصر في حياة
سيدنا إسماعيل مثلة في الأم والزوجة،وإنما كان يتردد عليها على أرض مصر، ويذكر
الكندي في كتابه(فضائل مصر):"دخل مصر من الأنبياء ثلاثين نبيا...منهم
إلخ..وإسماعيل بن إبراهيم.." ([24]).وبذلك لم تكن صلة
إسماعيل عليه السلام بمصر منقطعة، وإنما كان طيلة حياته في أحضانهم يحيطونه من كل
جانب، فهم بالنسبة له: الأم والزوجة والأخوال – أخواله وأخوال أولاده – والأصهار
والأصدقاء، فضلا عن أن هذا النبي – جد محمد صلى الله عليه وسلم – في عروقه دماء
المصريين القدماء.
وبرغم هذه الروابط
القوية بين سيدنا إسماعيل عليه السلام وبين المصريين القدماء، وبرغم أن هناك
احتمالا كبيرا أن يكون ملما بلغتهم عن سواء عن طرق أمه أو زوجته أو زيارته، إلا
أننا لا نجد في أي مصدر من المصادر – يهودية أو إسلامية – إي ذكر لتوجه سيدنا
إسماعيل بدعوته التوحيدية إلى أي واحد من أولئك المصريين القدماء، وذلك لأنهم
كانوا جميعا موحدين بالفعل.وإنما كانت دعوته عليه السلام موجهة إلى قبائل جرهم
والعماليق التي وفدت إلى مكة،ويؤكد ذلك كثير من المؤرخين منهم ابن كثير:"
وكان إسماعيل عليه السلام رسولا إلى أهل تلك الناحية وما والاها من قبائل جرهم
والعماليق "([25]).
0 التعليقات:
إرسال تعليق