وسائل الاتصال الإسلامي بالثقافة اليونانية
لقد دخل المسلمون حوض
البحر المتوسط ، وهم حديثو عهد بعلوم كثيرة برع فيها العلماء اليونانيون في الشام
ومصر وغيرهما من الأقاليم الرومانية، ولم يصحب المسلون معهم من الحجاز شيئاً
كثيراً من العلوم أو التراث الثقافي، وإنما جاءوا فقط بالدين الإسلامي واللغة
العربية، أما غير ذلك فقد اعتمدوا فيه على العلماء من أهل الشام ومصر المتشبعين
بالثقافة اليونانية، وبذلك وضع المسلمون أيديهم على شطر ثمين من الحضارة
اليونانية، غير أن المسلمين لم يلبثوا أن عملوا على تنمية نصيبهم من التراث
اليوناني معتمدين على جهودهم الخاصة، والسؤال هنا هو : ما هي وسائل اتصال المسلمين
بالثقافة والتراث اليوناني ؟
لقد اتصل المسلمون
بالثقافة الرومانية بعدة طرق من بينها ما فتحه المسلمون من المراكز التي كانت
معاقل مهمة للثقافة اليونانية كالإسكندرية وأنطاكية والرها ([1] ) ، وقد
أقبل المسلمون إلى هذه المعاقل الثقافية يرتشفون من معين الحضارة اليونانية،
فترددوا على المدارس المختلفة في تلك المدن وكانوا يتنافسون مع الأساتذة([2])، كذلك
كانت القوافل التجارية إحدى سبل الاتصال الثقافي؛ فالسلع التجارية من وسائل تبادل
المؤثرات الثقافية بين مختلف الأقاليم كذلك التقابل بين التجار العلماء ومحبي
المعرفة([3] ) ، وتم
الاتصال الثقافي عن طريق أسرى الجانبين الروماني والإسلامي، وبخاصة الرومانيون ؛
فقد كان بعض هؤلاء الأسرى يجيدون بعض المهارات والعلوم([4] ) ، وكذلك
انتقلت العلوم والمعارف الرومانية إلى المسلمين عن طريق الزيارات المتبادلة بين
الطرفين، وعلى سبيل المثال تروي المصادر العربية رحلة مجاهد بن يزيد ، وخالد
البريدي سنة 102هـ / 720 م لمدينة أفسس([5]) لزيارة
أصحاب الكهف([6] ) كذلك زيارة
بعض الرومانيين لمسجد قبة الصخرة ومسجد دمشق الكبير([7] ) .
ويعلق فازيليف على مثل
هذه الزيارات بأنها سفارات علمية لأنها صادرة من أشخاص معاصرين لفترة زمنية كانت
الحروب فيها شديدة بين المسلمين والرومانيين وكان من الممكن أن يقوم بينهما نوع من
الاتصال الثقافي، وقد كان هدف هذه البعثات منسجماً ومتفقاً مع عقلية العصور الوسطي
([8]
).
كما كان تعليم أولاد
الخلفاء والأمراء إحدى وسائل الاتصال بالثقافة اليونانية ، حيث كان يقوم بتعليم
الأولاد معلمون ينتقون بالأفضلية من بين الرومانيين المقيمين في الشام، فيوزعون
على تلامذتهم ما اكتنزوا من العلوم اليونانية التي برعوا فيها([9]
) ، وعلي سبيل المثال يذكر يعقوب الرهاوي أن رجال دين قاموا بمهمة تعليم أبناء
الخلفاء والأمراء المسلمين، وقد أفتى يعقوب الرهاوي لرجال الدين المسيحيين بأنه
يحل لهم أن يعلموا أولاد المسلمين العلوم اليونانية([10] ) ، ويقال أن يزيد بن
معاوية وكل أمر تعليم ابنه خالد العلوم اليونانية إلى الراهب مريانوس ، وأن عبد
الملك بن مروان عهد إلى اثناسيوس الرهاوي تعليم أولاده العلوم اليونانية([11]
) ، وكان الخلفاء أنفسهم يحضرون دروس المعلم مراراً ويتفادون التدخل حتى إذا اضطر
المعلم أن يعاقب تلميذه بقسوة([12]
) .
وكان لسماحة الإسلام في
معاملة أهل الذمة وإباحة الزواج منهم أثر فعال في الاتصال الثقافي، فقد كانت
الزيجات الناجحة التي تمت بين المسلمين والمسيحيات إحدى وسائل الاتصـال الثقافي في
حالة تمتع الزوجة بقدر من الثقافة([13] ) ، وكان
للصدقات التي كانت أواصرها مربوطة بين المسلمين والمسيحيين دورها الكبير في
الاتصال الإسلامي بالثقافة اليونانية، فمثلاً يحملنا ميل معاوية إلى المسيحيين
وعشرة ابنه يزيد بن معاوية للمسيحيين – يحملنا على الاعتقاد بأن ولي العهد ويوحنا
الدمشقي بن سرجون رئيس ديوان المالية نهلا من ثقافة مشتركة في بعض العلوم
اليونانية، وهكذا استفاد يزيد من التعلم على يد أسـاتذة يوحنا الدمشقي، واقتبس
عنهم الثقافة اليونانية ([14] ).
وعلى هذا الأساس لم
يترك المسلمون طريقاً للتزويد من علـوم اليونانيين إلا سلكوه ([15] ) ما دام
لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية، ولم يتوان المسلمون في إغداق عطاياهم على العلماء
الضليعين في العلوم اليونانية وغيرها، وضمهم إليهم والاستئثار بهم، ولكننا نجد في
الوقت نفسه بعض المؤرخين الغربيين يخرج علينا ببعض الافتراءات، ومنهم على سبيل
المثال فنلاى Finlay الذي ذكر أن الفتوح الإسلامية كانت من أهم أسباب تدهور الحضارة
اليونانية وأن المسلمون حملوا تلك الحضارة فترة قصيرة، لكن سياستهم سرعان ما
تغيرت، وتم تحريم كل ما هو يوناني([16] ). والسؤال
هنا : هل فعلاً كان المسلمون السبب في تدهور الحضارة اليونانية ؟
إن الأبحاث الحديثة
أثبتت بصورة قاطعة أن مراكز البحث العلمي والفلسفي اليوناني كانت منتشرة في الشام
ومصر اللتين فتحها المسلمون ، وأن هذه المراكز لم يتوقف عملها العلمي. وقد قدم لنا
ماكس مايرهوف بحثاً عن انتقال العلم اليوناني إلى العالم الإسلامي وأثبت في مطلعة
أن مدرسة الإسكندرية كانت لا تزال قائمة وقت الفتح الإسلامي لمصر، وكانت هي
المدرسة اليونانية البحتة الوحيدة التي بقيت في البلاد التي غزاها المسلمون، وأن
المسلمين عرفوا منهج الدراسة في مدرسة الإسكندرية المتأخرة، وتابعوا لفترة من
الزمن هذا المنهج. ومن أدلته على ذلك ما ذكره القفطى (ت646 هـ / 1248 م ) : "
والإسكندرانيون هم الذين رتبوا بالإسكندرية دار العلم، ومجالس الدرس الطبي، وكانوا
يقرأون كتب جالينوس ويرتبونها على الشكل الذي تقرأ عليه اليوم " ، ومن أدلته
أيضاً قول حنين بن إسحق ( ت 264 هـ / 877 م ) في كتابه "في تاريخ الفلاسفة"
بعد أن ذكر كتب جالينوس العشرين :" فهذه الكتب التي كان يقتصر على قراءتها في
تعليم موضوع الطب بالإسكندرية، وكانوا يقرؤنها وكانوا يجتمعون في كل يوم على قراءة
إمام منها و تفهمه، كما يجتمع أصحابنا اليوم من النصارى في مواضع التعليم التي
تعرف بالأسكول في كل يوم على كتاب إمام، إما من كتب المتقدمين وإما من سائر الكتب
" ويعلق ماكس مايرهوف على هذا بقوله : " وعلى هذا النحو بقيت الدراسة في
الشرق والغرب طوال العصور الوسطي "([17])
ومن الأدلة على أن
المسلمين كانوا عَطاشا إلى العلم ويحافظون على استمرار جريان روافده من منابعها أن
الخليفة عمر بن عبد العزيز نقل مدرسة الإسكندرية إلى أنطاكية([18] ) ، بعد أن
أصبح من العسير وصول المخطوطات اليونانية من الإمبراطورية الرومانية إلى
الإسكندرية لبعد المسافة ولصعوبة الرحلة التي تتكلف الكثير من الجهد والمال
والأخطار، على عكس مدرسة أنطاكية . وأنطاكية هي إحدى مدن الثغور الواقعة تحت تأثير
الجوار للحضارة اليونانية وكانت المخطوطات اليونانية تنتقل إليها من آسيا الصغرى
في الفترات الحالية من الحروب([19] ) .
ويري فيليب حتى أن قيام
الدولة الأموية في الشام كان حافزاً على انتقال العلم إلى موطن حكمهم، وذلك عن
طريق تشجيع رعاياهم المتمكنين من العلوم اليونانية وغيرها على متابعة جهودهم،
وقربوا إلى بلاطهم من يمكن الاستفادة منه حتى أضحت الشام تربة صالحة، لأن تنقل
إليها معارف مدرسة الإسكندرية([20] )
وقال " داربر
" المؤرخ الأمريكي : " كانت إدارة المدارس – بفضل سماحة الخلفاء ونبلهم –
موكولة إلى النساطرة تارة، وإلى اليهود تارة أخرى، ولم يكن المسلمون ينظرون إلى
البلد الذي عاش فيه العالم، ولا إلى الدين الذي يعتنقه. بل ينظرون إلى مكانته من
العلم والمعرفة "([21] ) .
وقال أوسي Owsei : " لقد كان للمسلمين فضل كبير في الحفاظ على التراث
اليوناني في قرون كانت ستجهض فيها مجهودات العلماء من اليونانيين وغيرهم ممن حمل
الثقافة اليونانية كالنساطرة والسريان "([22] ) .
وعلى هذا الأساس فقد
كان فنلاى Finlay مبالغاً في تصويره لما أصاب الثقافة اليونانية من اضمحلال على يد
المسلمين ، بل العكس صحيح ؛ فقد كانت الثقافة اليونانية في روما نفسها تضمحل، وذلك
لعدة أسباب منها أن القرن السابع الميلادي كما ذكرنا يمثل مرحلة تغيير كبيرة في
اللغة والفكر ، فقد أصبحت اللغة اليونانية هي اللغة الرسمية بعد أن كانت لغة
الدواوين لاتينية([23] ) ، وكان
هذا سبباً في الفصل بين روما والغرب اللاتيني ومنع سبل الاتصال الثقافي مع الغرب
الأوروبي، فقل وصول التراث الثقافي اللاتيني الغربي إلى روما([24] ) ، كما
خضعت أجزاء من الإمبراطورية في شرق أوروبا مثل إيطاليا للشعوب المتبربرة، ففي
المجمع الديني السادس تذمر البابا أغاثوا Agathoمن
أن دراسة اللاهوت قد تدهورت تماماً، وأصبحت مستحيلة في إيطاليا تحت حكم وضغط
اللمبارديين([25] ) .
وإذا نظرنا إلى المجتمع
الروماني في القرن السابع والثامن الميلاديين، نجده ينقسم إلى ثلاث طبقات : الأولى
: عبارة عن شريحة صغيرة من النخبة المثقفة المعروفة باسم Intellectual Elite ؛ الثانية : وهي شريحة أكبر من السابقة، وهي تجيد أو تعرف الكتابة
فقط دون أن يكون لها أثر فكري ؛ والثالثة : وهي الشريحة الضخمة من الجماعة غير
المتعلمة وهي تمثل أكثر من 95% من مجموع السكان([26] ) .
والطبقة الأولى والتي
يشار إليها باسم Intellectual
Elite هي المجموعة التي
تلقت تعليمها في مدراس خاصة، حيث تعلموا اللغة اليونانية القديمة والخطابة، وكانوا
مجهزين للعمل في وظيفة كاتم السر Sckreta التابعة
لإدارة الإمبراطور، وثقافتهم من النوع الذي لا يسهل فهمه، لذلك هي مقتصرة عليهم،
ومكتوبة بلغة حافلة بالأسرار والألغاز، وقد ارتكز استمرار هذه المجموعة أو الطبقة
بالدرجة الأولي على بقاء مدراس من نوع خاص، وكان عددهم قليلاً جداً، وكان من سمات
أسلوبهم الكتابي أنه سردي مطول، وكانوا يجيدون استخدام المصطلحات المصطنعة،
وبطريقة تطمس الواقعية من الحياة الرومانية التي تحتاجها كتابتهم الوظيفية ([27] ) .
كما أنه في بداية القرن الثامن الميلادي اشتعلت
نار الحركة اللا أيقونية، ونتج عنها حرق مؤلفات الأيقونيين، كما كانت المؤلفات
اللا أيقونية مكتوبة بصورة مشوشة في معظم أخبارها عن الأيقونيين لهذا كان القرنان
السابع والثامن الميلاديان من أشد القرون عقماً في تاريخ الثقافة اليونانية([28]).
[5] ) أفسس : هي إحدى مدن ثيم التراقيسيون بآسيا الصغرى ،
وهي مدينة أصحاب أهل الكهف الذين استشهدوا زمن الاضطهاد الديني للإمبراطور
دقلديانوس 284- 305 م وقد ذكرهم القران الكريم في سورة الكهف
Ostrogosky : Byzantine State ., P 116
[9] ) تتألف لوائح أسماء المدرسين في المدارس في القرن
الأول الهجري من أسماء موالي وذميين تقريباً انظر . ابن رسته: مصدر سابق ص 216 - الجاحظ
:البيان والتبيين. ج ،1 ص 101. ابن قتيبة : المعارف ، ص 185.
[11] ) وسام عبد
العزيز فرج : العلاقات بين الإمبراطورية الرومانية والدولة الأموية، ص 404
[12] ) Lammanes : Etudes., 361
[14] ) Ibid: p. 298 – 299.
[15] ) Ibid: p.300.
[16] ) Finlay : op. cit ., p 401.
[17] ) ماكس مايرهوف : من الإسكندرية إلي بغداد ترجمة
الدكتور عبد الرحمن بدوي بحث في كتاب التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية
[22] ) Owsei : op. cit., p 116
[25]) Bury : L. R.E ., Vol.II ., p. 391
[26] ( Mango: Discontinuity With The Clossical Past in Byzantium and
its Maze., London: 1984., P. 49
[27] ) Ibid : p. 50.
0 التعليقات:
إرسال تعليق