«الهجرة
النبوية..دروس في فن صناعة الأمل»
ما أحوج المصريون في هذا الوقت العصيب، الذي تموج فيه البلاد بالفتن
والصراعات والاغتيالات والجراحات إلى تعلم فن صناعة الأمل، ونحن نقف مع الهجرة النبوية
لنأخذ منها دروسًا في ذلك، ففي إحدى ليالي الموسم بمنى، حيث تجمعت وفود من القبائل
العربية للحج، وبين خيام هؤلاء الحجيج حيث كان المصطفى صلى الله عليه وسلم وصاحبه
أبو بكر الصديق يعرض نفسه ودعوته على الوفود العربية حتى سمعا ستة نفر منزوين
يتحادثون ويتسامرون فاتجه صلى الله عليه وسلم وصاحبه إليهم، فقالا وقالوا، وتحدثا
وسمعوا، وبينا فأصغوا، فانشرحت القلوب، ولانت الأفئدة، ونطقت الألسنة بالشهادتين،
وإذا بأولئك النفر من شباب يثرب يُطلقون الشرارة الأولى من نار الإسلام العظيمة
التي أحرقت الباطل فتركته هشيمًا تذروه الرياح. من كان يظن أن تلك الليلة كانت
تشهد كتابة السطور الأولى لملحمة المجد والعزة؟ ومن كان يظن أن يكون أولئك النفر
الستة بداية مرحلة جديدة من العز والتمكين، والبذرة الأولى لشجرة باسقة ظلت تؤتي
أكلها كل حين بإذن ربها؟
إن نصر الله يأتي للمؤمنين من حيث لا يحتسبوا ولا ُيقدّروا، لقد طاف رسول
الله بمجتمعات القبائل وقصد الرؤساء وتوجه بالدعوة إلى الوجهاء وسار إلى الطائف،
فعل ذلك كله عشر سنوات وهو يرجو أن يجد عند أصحاب الجاه والمنعة نصرة وتأييدًا،
كان يقول في كل موسم:" من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي "، ومع
كل هذا لم يجد من يؤويه ولا من ينصره، بل لقد كان الرجل من أهل اليمن أو من مضر
يخرج إلى مكة فيأتيه قومه فيقولون له: احذر غلام قريشٍ لا يفتنك!
لم تأت النصرة والحماية والتمكين من تلك القبائل العظيمة ذات المال
والسلاح، وإنما جاءت من ستة نفر جاؤوا على ضعف وقلة.
حقا عندما يأذن الله بالفرج من عنده، يأتي النصر من قلب المحنة، والنور من
كبد الليل الحالك الظلمة، والله تعالى هو المؤيد والناصر، والبشر عاجزون أمام قدرة
الله .. ستة نفر من أهل يثرب كلهم من الخزرج دعاهم رسول الله إلى الإسلام ولم يكن
يتوقع منهم نصرة، وإنما أراد دعوتهم فآمنوا وأسلموا، ثم تتابعت الأحداث على نسق
عجيب، قال جابر بن عبد الله - وكان أحد النفر الستة – حاكيا عن قصتهم -:" حتى
بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا، فيؤمن به ويقرئه
القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق من دور الأنصار إلا وفيها رهط
من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعًا فقلنا: حتى متى نترك رسول الله
يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدموا عليه الموسم،
فواعدناه العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله
علام نبايعك؟ قال:" على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر
واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون لومة
لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم
وأزواجكم، ولكم الجنة "، قال جابر: فقمنا إليه فبايعناه". [مسند أحمد].
فاليعتبر كل المصريون من هذا المشهد؟! يُعرِض الكبراء والزعماء ويستكبر
الملأ وتتألب القبائل وتتآمر الوفود وتُغلق الأبواب، ثم تكون بداية الخلاص بعد ذلك
كله في ستة نفر لا حول لهم ولا قوة!
إن الله ليضع نصره حيث شاء وبيد من شاء، وعلينا أن نعمل على أن نحمل دعوتنا
إلى المصالحة الجادة النقية بين كل أطياف المجتمع المصري لا إقصاء لأحد ولا احتقار
لأحد ولا استكبار على أحد، وعلى كل المخلصين لهذا الوطن أن يسيروا في طريق
المصالحة مهما يظلمُ الليل وتشتد الأحزان، فمن يدري لعل اللهَ يصنع لنا في حلكات
ليلنا الداجي خيوط فجرٍ واعد، ومن يدري لعل آلامَنا هذه مَخاض العزة والتمكين.
وعلى أن كل حساب مادي
يقطع بهلاك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كيف لا وهو في الدار والقوم محيطون بها
إحاطة السوار بالمعصم، مع ذلك صنع النبي صلى الله عليه وسلم الأمل، وأوكل أمره إلى
ربه وخرج يتلو قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ومِنْ
خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأغْشَيْنَـٰهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ) [يس:9]. خرج الأسير
المحصور يذر التراب على الرؤوس المستكبرة التي أرادت قتله، وكأن هذا التراب رمز
الفشل والخيبة اللذين لزما المشركين فيما استقبلوا من أمرهم. فانظر كيف انبلج فجر
الأمل من قلب ظلمة سوداء. ويمضي الرسول صلى الله عليه وسلم في طريقه يحث الخطى حتى
انتهى وصاحبه إلى بلغ غار ثور، وهو على جبل شامخ وعر الطريق صعب المرتقى، ومكثا
هناك ثلاثة أيام.
ومرة أخرى يصنع الأمل
في قلب المحنة، وتتغشى القلوب سكينة من الله وهي في أتون القلق والتوجس والخوف.
يصل المطاردون إلى باب الغار، ويسمع الصاحبان في الغار وقع أقدامهم، ويهمس أبو
بكر: يا رسول الله ، لو أن بعضَهم طأطأ بصَره لرآنا! فيقول :" يا أبا بكر، ما
ظنك باثنين الله ثالثهما؟!".
وكان ما كان، ورجع المشركون بعد أن لم يكن بينهم
وبين مطلوبهم إلا خُطوات. فانظر مرة أخرى كيف تنقشع عتمة الليل عن صباح جميل، وكيف
تتغشى عنايةُ الله عبَاده المؤمنين، (إِنَّ ٱللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ
ءامَنُواْ) [الحج:38].
ويسير الرسول صلى
الله عليه وسلم وصاحبه في طريق طويل موحش غير مأهول، لا خفارة لهما من بشر، ولا
سلاح عندهما يقيهما حتى إذا كانا في طريق الساحل لحق بهما سراقة بن مالك طامعًا في
جائزة قريش مؤملاً أن ينال منهما ما عجزت عنه قريش كلها، فطفق يشتد حتى دنا منهما
وسمع قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومرة ثالثة، وهذا الفارس على وشك أن يقبض
عليهما ليقودهما أسيرين إلى قريش تذيقهما النكال، مرة ثالثة يصنع الأمل، ولا يلتفت
الرسول صلى الله عليه وسلم إلى سراقة ولا يبالي به وكأن شيئًا لم يكن، يقول له أبو
بكر: يا رسول الله، هذا الطلب قد لحقنا، فيقول له مقالته الأولى: لاَ تَحْزَنْ
إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].
لقد اصطنع الأمل في
الله ونصره فنصره الله وساخت قدما فرس سراقة، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها
غبار ساطع في السماء كالدخان، فأدرك سراقة أنهم ممنوعون منه. ومرة ثالثة جاء النصر
للرسول صلى الله عليه وسلم من حيث لا يحتسب، وعاد سراقة يقول لكل من قابله في
طريقه ذاك: ارجع فقد كفيتكم ما ها هنا، فكان أول النهارِ جاهدًا عليهِما وآخرَه
حارسًا لهما.. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضيق إلى أمل حتى قدم المدينة ..
هكذا، تعلمنا الهجرةُ
في كل فصل من فصولِها كيف نصنعُ الأمل، ونترقب ولادةَ النورِ من رحم الظلمة، وخروج
الخير من قلب الشر، وانبثاق الفرج من كبد الأزمات. فما بعد اشتدادِ ألمِ المخاضِ
إلا الولادة، وليس بعد ظلمةِ الليل إلا انبثاق الفجر، (فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ
يُسْرًا إِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح:5، 6]، ولن يغلب عسرٌ يسرين،
فابشروا وأملوا وعودوا واستغفروا الله.
فهل يدرك هذه المعانى المصريون المتعلقون بأذيال الماديةِ الصارخةِ
والنافضون أيديَهم من قدرة الله وعظمته؟! وهل يدرك هذا المعنى المصريون الغارقون
في تشاؤمهم اليائسون من فرج قريب لهذه الدولة المنكوبةِ بالفتن التي تقصف أعمار
خيرة شبابها؟!د/عبدالوهاب القرش
دكتوراه في العلوم الإسلامية
0 التعليقات:
إرسال تعليق