الخميس، 14 نوفمبر 2013

«القرآن الكريم وبراعة العرب في الحفظ والكتابة»


«القرآن الكريم وبراعة العرب في الحفظ والكتابة»
ينفرد القرآن من بين ما عرفت البشرية من كتب، بأن له نصا واحدا، حيثما سرنا وأنى طوفنا فى الزمان أو المكان، ولكن كيف وصل به إلينا وهو الكتابة، حيث لم يعتد العرب أن يدونوا آثارهم فهم شعب أمى لا يقرأ فى مجموعة ولا يكتب، ومن هنا كانوا يعتمدون على قوة الحافظة فى أداء ما يتعين عليهم أداؤه.
يروى عن أبي جعفر المنصور - الخليفة العباسى الثانى - فى معرض الإشارة إلى نجله ورغبته فى عدم إجازة الشعراء، أنه كان يحفظ القصيدة التى تتلى أمامه بمجرد إلقائها، ولديه عبد رقيق كان يحفظ القصيدة إذا سمعها مرتين، ولديه جارية تحفظ القصيدة بمجرد تكرارها أمامها ثلاث مرات، وعلى هذا الأساس كان يقول لأى شاعر يفد عليه بعد أن يتلو عليه القصيدة، أنه قد سبق إليها وليست من إنشائه، بدليل أنه يحفظها ويعيد المنصور إلقاء القصيدة. ثم يتلوه العبد فالجارية.
وسواء صحت هذه القصة أم لا، فهى صادقة من حيث أن ذلك كان شأن العرب فيما يلقى عليهم من أحاديث. فالبعض كان يحفظها بمجرد سماعها ويستطيع أن يؤديها بألفاظها. والبعض يحتاج إلى تكرارها مرتين أو ثلاثا وهكذا. والمهم أن هذه هى الوسيلة الوحيدة ليعرف أى عربى من هم آباؤه وأجداده. وماذا له من حقوق وما عليه من واجبات، وماذا قال الشعراء فى مدحه أو مدح قبيلته، وماذا قالوا فى هجوه أو هجو قبيلته.. لا سبيل غير النقل بالفم والسماع فالحفظ.
إن ملكات الإنسان وقدراته وطاقاته تضعف كلما كثر اعتماده على الآلة. وفى عصرنا الحديث بعد أن أصبحنا نعتمد على الكتابة والتسجيل بالصورة، والصوت، والسينما والتلفيزيون، وانتشار الصحف والكتب، وتوفر كل ذلك على الإنترنت قد ضعفت حافظة الإنسان بصفة عامة لعدم ضرورتها له. ومن هنا فلن نستطيع أن نتصور ما كان عليه الإنسان فى الماضى، عندما كان يكفى بعض الأشخاص أن يطالع الكتاب مرة واحدة، أو يسمع القصيدة مرة واحدة لكى يحفظها على الفور، وهذا ما يجعل بعض البسطاء والسذج ينكرون ما يقال لهم أو يطالعونه من هذا القبيل، ولكن لو تذكر الإنسان كيف أنه أصبح لا يستطيع اليوم أن يقطع بضع كيلومترات سيرا على الأقدام بعد أن توافرت وسائل المواصلات الآلية، بينما كانت الجيوش المصرية أو الإغريقية أو الرومانية ومن بعدها الإسلامية تقطع عشرات الألاف من الكيلومترات سيرا على أقدامها.
وقبل اختراع العقول الالكترونية، كان علماء الرياضيات يجرون كل الحسابات الفلكية على الورق، واليوم لا يستطيع أكبر العلماء أن يجرى أبسط العمليات الحسابية التى كان يجريها علماء الأمس، لأن الآلات الحاسبة فضلا عن العقول الالكترونية أصبحت تغنيه عن ذلك.
وعلى هذا القياس، يجب أن ندرك ما الذى تعنيه قوة الحافظة عند العرب، فقد كانت وسيلتهم الوحيدة التى لا وسيلة غيرها، لاستيعاب أى أمر يريدون استيعابه، ولنقل أى رسالة يريدون نقلها، ولاختزان أى معرفة يريدون اختزانها.
ومن أراد أن يرى المعجب والمذهل حتى فى عصرنا الحديث من هذه الناحية، فما عليه إلا أن يذهب إلى مواطن البدو فى الصحارى العربية، ليرى كيف أن البعض منهم يكاد يصل إلى قوة جهاز التسجيل من حيث رصده لكل ما يقال أمامه، واستطاعته تكراره بعد ذلك.
وقد عرفنا أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان يمارس هذه الحقيقة بنفسه، فقد كان يعى القرآن بمجرد أن يوحى إليه به فينطق به ثم يحفظه على الفور بحيث يكرره بنصه كلما احتاج إلى تكراره، وبالرغم من أنه كان محاطا بنفر من أصحابه فى مثل قدرته على الحفظ بمجرد تلاوة القرآن عليهم، فقد أبى ألا أن يدون القرآن بالكتابة، إيمانا منه بأنه من غير كلام البشر، وأنه من غير كلامه هو نفسه الذى يسوقه فى شتى المناسبات، ولذلك فقد حق لكلام الله أن يدون بالكتابة ليختلف عن باقى كلام البشر. ولم يكن بمحض الصدفة أن تكون أول آيات نزلت على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيها إشارة إلى أن القلم هو سبيل العلم: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ).
لقد فهم الرسول صلى الله عليه وسلم الإشارة الإلهية، فراح يقيد بالقلم ما هبط عليه من الوحى، ولم يكن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يقرأ أو يكتب، فليكتب له من يستطيعون الكتابة. وإذا كان هؤلاء الذين يعرفون القراءة والكتابة قليلا فى مكة، وأقل منهم بين الصحابة، فإن عددهم قد تزايد بعد أن وصل إلى المدينة، وقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يعلم أكبر عدد من أبناء الصحابة الكتابة، حتى لقد روى أنه جعل فداء أسرى بدر من المشركين أن يعلم القادر منهم عشرة من أبناء الصحابة القراءة والكتابة.

وكان القرآن يكتب فى الرقاع وفى صحف الجلد وفى العسب وهو جريد النحل واللخاف وهو صفائح الحجارة.وقد تواجد القرآن مكتوبا يتداوله الصحابة منذ عصر مبكر، ففى قصة إسلام عمر بن الخطاب حديث عن سورة طه مكتوبة على أديم من الجلد، وهى التى قرأها سيدنا عمر فكانت سبب إسلامه.
                                               د/عبدالوهاب القرش
                                              دكتوراه في العلوم الإسلامية

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
;