الأحد، 5 فبراير 2012

«حراء ولقاء الأحباء»



«حراء ولقاء الأحباء»
على بعد ساعة واحدة من مكة المكرمة بالسير على الأقدام، وعلى يسار الذاهب إلى منى تمتد سلسلة من الجبال والآكام المتلاصقة، ويلوح في وسطها جبل حراء يطل على تلك الفيافي الشاسعة والجبال الفارعة، وكأنه المنارة الساطعة.

وقد صعد محمد - صلى الله عليه وسلم - قبيل البعثة إلى هذه المكان العالي، حينما رأى قريشًا قد هوت إلى الحضيض، وانحدرت في عبادتها إلى الدرك الأسفل، فسما هو إلى هذا المكان وكان يخلو به كل عام في شهر رمضان، أجل كان يخلو بغار في أعلى هذا الجبل الأشم،

 وهو كهف غريب جعله الله على وضع عجيب، يأخذه فيه الإنسان راحته الكاملة، وتنطلق فيه الروح من أسر المادة وعقال الشهوة، إلى حيث تسمو إلى العلياء، وتسبح في ملكوت السموات والأرض. فبابه يتسع لدخول الشخص الواحد وهو قائم، وقد غُطي سقفه بصخور مائلة، لذا كان وسطه أعلى من جانبيه. ويستطيع اثنان متجاوران أن يصليا فيه براحة كاملة، ومساحته من الداخل تسمح بنوم ثلاثة من الرجال متجاورين. وقد أسعدني الحظ بالرقي إلى هذا الغار.
فإلى هذا المكان الذي يشق العنان، كان يصعد محمد - صلى الله عليه وسلم - قبيل بلوغه الأربعين، حاملا معه من الماء والطعام ما يكفيه لقضاء جزء كبير من شهر رمضان في كل عام، وبين تلك الصخور والرجام، وفي هذا الصمت العميق، ومن خلال تلك الكوة الضيقة كان يطل محمد - صلى الله عليه وسلم - على الدنيا بأسرها، فيطالع عظمة الكون ونظامه ودقته وإحكامه، ثم ينظر مع ذلك إلى أهل مكة وما حولها، فيراهم في الغي سادرين، فيستولي على نفسه الضيق والألم، ويتمنى أن لو جاء الحق الذي تسكن له النفوس، وتطمئن به القلوب، وتنجاب أمامه الغياهب والظلمات.وكان العالم كله في غفلة عن محمد – صلى الله عليه وسلم - وهو يأوي إلى غار حراء متوحِّداً في سبيل التوحيد.
وبعد طول عناء في هذا الغار الشاهق الارتفاع الذي يقع على الطريق ما بين السماء والأرض تم اللقاء بين محمد القادم من الأرض حاملاً ضراعتها ، وبين جبريل القادم من السماء حاملاً رسالتها ودار الحوار :
الملك جبريل : اقرأ .
 النبي محمد : ما أنا بقارئ .
 الملك جبريل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ،  عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق:1-5).
هذه الكلمات هي بسملة سعادة الإنسان ، وهي الأشعة الأولى لأنوار القرآن ، يا لها من براعة استهلال لمقاصد الرسالة ..ويعبر عبد المعطي الدالاتي عن هذا المشهد قائلا:

من تحت ســن القلـم             أبصرتُ بعث الأممِ
(اقرأ) تلاها المصطفـى          فكان جيل الأرقـمِ
ها هنا في قلب الغار اختُصر تاريخ الإنسان، فيا له من مكان غمر في جوفه الزمان، ولقد تكون بعض الأحداث في التاريخ أكبر من التاريخ نفسه !! ويوم حراء أكبر وأخلد من التاريخ . وأكرِم بيوم تم فيه اللقاء بين أمين الأرض وأمين السماء !
لقد خرج محمد - صلى الله عليه وسلم - من هذا الغار حقيقة نقية كالسماء الصافية، خرج قانوناً من قوانين الله التي تُسيِّر الشمس والقمر، وتمسك السماء والأرض، يمضي قُدماً إلى الغاية المقدورة مُضيّ النجوم في حُبكها والشمس في فلكها، هبط الرسول من حراء وقد حمل أمانة الرسالة ، فليت شعري أَهَبط ونفسه قريرةٌ كما ينزل النور من الشمس والقمر؟ أم نزل ونفسه جائشةٌ كما ينزل الغيث بين الرعد والبرق؟! ما هي المشاعر والأفكار التي كانت تجول في قلبه وقد حمل "قولاً ثقيلاً" لينقذ به العالمين من الظلمات إلى النور ؟! لست أدري، ولكنه نزل ديناً جديداً، وعصراً وليداً، وتاريخاً مديداً، وإصلاحاً شاملاً وهدى كاملاً، ورحمةً للعالمين
أيها الغار : يا مأوى محمد .. ويا مطلع النبوة .. ويا بوابة السماء ! كم فجّر الله فيك من ينابيع هدى، ومن شلالات سناء، وقد عبر عن ذلك الشاعر الحجازي السيد العربي بقصيدة رائعة قال فيها:
هذا حراء سائلوه يجبكم ... فلعله سفر من الأسفار
واستلهموه مواقف الوحي التي ... شع الهدى منها على الأقطار
وسلوه ماذا قد أقل من البطو ... لة والحجى؟ أعظم به من غار
أخلق بغار حراء أن يزهى على ال ... أهرام والإيوان والآثار
كم بين صاحبه وبين بناتها ... من فارق أربى على الأقدار
شتان بين محرر الأقوام وال ... مستعبدين سلائل الأحرار

وهكذا ابتدأت دعوة الحق نورًا أضاء في غار تقاس مساحته بالأشبار، ولكن لم يلبث هذا النور إلا قليلًا حتى ملأ الأقطار والأمصار، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
                                                          د/عبدالوهاب القرش
                                                      دكتوراه في العلوم الإسلامية

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
;