الأحد، 1 ديسمبر 2013

« حلقة الوصل بين الجريمة ونظام الحكم »




« حلقة الوصل بين الجريمة ونظام الحكم »
إن الحكم الصالح لا يمكن أن يكون بلا رجال صالحين ، والدولة ما لم يستلم قيادتها رجال صالحون عادلون حكماء علماء أنقياء يسيرون بها على معالم شريعة عادلة كاملة شاملة نحو هدف راقٍ سامٍ عظيم ، فإنها ستبقى تعيش في فوضاها الرهيبة المؤلمة .
لا يستطيع عاقل أن ينكر أن جو الاستبداد يختنق به العباد، وأن جو الحرية أكثر ملاءمة لخير البرية؛ وما ذلك إلا لأن الاستبداد يصنع في النفوس قنابل موقوتة تتحين الفرصة المواتية كي تثور ثورة تخلع بها عن أعناقها ما يحيط بها من أغلال الاستبداد، تلك الأغلال التي لا يشع منها إلا الخوف والاضطراب .
وكلمة " الاستبداد " يفوح منها معنى "القهر الغاشم " الذي يكمم الأفواه وينأى بالسلطة السياسية عن جو الشورى والعدالة والمساواة والاستماع لنصح الناصحين ، ويولد الحكم الفردي الذي يرمي إلى تحقيق أهداف خاصة حتى ولو كانت لا تتفق مع مصلحة  الأمة ، وفي هذا ما فيه من إساءة استعمال لمواقع السلطة ‍‍!! .
ويحمل التاريخ في ذاكرته كثيراً من رموز الاستبداد السياسي قديماً وحديثاً : فمن الرموز القديمة " فرعون " الذي قال الله – تعالى - في شأن استبداده السياسي: ( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين  (.. ومن الرموز الحديثة " مصطفى كمال أتاتورك " الذي تولى حكم تركيا عام 1923م ، وقد  كان توصيله إلى الحكم هو الثمن الذي قدمه له الإنجليز مقابل قضائه على دولة الخلافة ، وقطع تركيا عن كل ماله صلة بالعرب والإسلام .
إن الاستبداد السياسي يمزق وحدة المجتمع ، ويمنع الأتقياء وأهل الصلاح وأفراد المجتمع من العمل على صيانته وحفظه ، فتنمو نباتات الإجرام التي تنخر في كيانه ، وقد يترتب على ذلك في النهاية تدهور الدول ، أو خضوعها لأعدائها ، أو محو آثارها بالكلية .
ولذلك يؤكد ابن خلدون أن الحاكم " إذا كان قاهراً باطشاً بالعقوبات منقبا عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم ، شملهم الخوف والذل ، ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة فتخلقوا بها ، وفسدت بصائرهم وأخلاقهم ، وربما خذلوه في مواطن الحروب والمدافعات ، ففسدت الحماية بفساد النيات … فتفسد الدولة ويخرب السياج ".
ويقرر ابن خلدون أيضاً أن تعدي الدولة على الرعية يؤذن بخراب الدولة، حيث يقول: " إن التعدي والظلم عائده الخراب في العمران ، وعلى الدولة بالفساد والانتقاض ، وكل من اخذ ملك أحد ، أو غصبه في عمله ، أو طالبه بغير حق ، أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلم ، ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها ، وهذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم ، وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه " .
و تضيع في ظل الاستبداد السياسي مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبالتالي تجد الرذائل سبيلاً مذللاً إلى الانتشار على حساب الفضائل .
تنمو في عهد الحاكم المستبد مشاعر الظلم والقهر ، الأمر الذي يجعل النفوس مترقبة متربصة لاغتنام ما تريده بأساليب الإجرام المختلفة .كما تنمو في ظله الاستبداد الإجرامي ، حيث يرضخ ضعاف الناس لاستبداد المجرمين دون مقاومة ؛ إدراكاً منهم أن السلطة السياسية متغافلة عن الضعفاء ، أو أنها أكثر استبداداً بالضعفاء . كما تنمو في ظله سلبية المواجهة ضد السلوك الإجرامي خوفاً من الوقوع في قبضة أجهزة الشرطة – حتى ولو على سبيل الشهادة – التي تأخذ بالشبهات وسوء الظن ، وتبني تعاملها  على هذا الأساس من باب الاحتياط !! .
وكم في غياهب السجون والمعتقلات وخلف الأسوار من أناس أبرياء أخذوا  بالشبهة فساءت سمعتهم وانهارت بيوتهم ، ثم يفرج عنهم فيتغير مسارهم : إما أن يكونوا سلبيين في مواجهة المجرمين ، حتى لا تضطرهم المقاومة إلى الوقوع في براثن الشبهات ، والدخول في " س " و " ج " وقد تليهما " ن " وأمام هذه السلبية يزداد المجرمون عتواً وطغياناً .
ولعل هذا المسلك المتعسف الذي تأخذ به أجهزة الشرطة مبالغة في أخذ الحيطة والحذر هو الذي يدفع كثيراً من الناس إلى ترك المصابين في حوادث السيارات دون محاولة إسعافهم أو الذهاب بهم إلى المستشفيات .
وإما أن يسلكوا سبيل الإجرام والطغيان وتعلم أساليب الإفلات من قبضة القانون ، والعيش بمنطق " من له ظهر لا يضرب على بطنه " .
وأخير تتعاظم في ظل عهد الاستبداد تتعاظم النزعة الذاتية لدى كل من يتبوأ المواقع القيادية ، حيث يعتبرونها فرصة- قد لا تعوض – لاغتنام المكاسب بأية طريقة قبل ترك الموقع القيادي ، وفي ظل هذه النزعة الذاتية تنتشر الرشوة والاختلاسات وتنحى المصلحة العامة جانباً ، وتنسحب هذه النزعة على القطاع العريض من جماهير الناس فيصاب المجتمع بالقلق والاضطراب .
إذا كان الاستبداد السياسي ذا أثر في انتشار الجريمة فكذلك الضعف السياسي الذي يعني " النقص في عناصر بناء النظام السياسي وسوء أدائه لوظيفته أو تناقض الوظائف التي يقوم بها ، مما يؤدي إلى خلق الظروف المؤدية للجريمة أو المعززة لوجودها واستمرار واتساع نطاقها ".
وغالباً ما ينعكس الضعف السياسي فشلاً في تنفيذ القانون أو ضعفاً في قوة القانون كعنصر أساسي من عناصر الضبط الاجتماعي ، ويترجم هذا الفشل أو الضعف في عدة صور تزيد من نسبة انتشار السلوك الإجرامي ، ومن هذه الصور: إمكان الإفلات من قبضة القانون برشوة الموظفين الرسميين .بالإضافة إلى قيام بعض ذوي الشأن من المسئولين بحماية المجرمين واستغلالهم في أعمال غير مشروعة كالسرقة والبلطجة والتهريب ، أو تحقيق بعض الأغراض السياسية كالدعاية الانتخابية أو إرهاب الخصوم السياسيين . ناهيك عن وضع القيود أمام الأمناء من رجال الشرطة أو رجال العدالة ، ومحاولة التأثير عليهم بما يثنيهم عن تنفيذ القانون أو العدالة في الحكم .
ولا ريب في أن ذلك يؤدي إلى زيادة انتشار السلوك الإجرامي، حيث يتمادى المجرم في إجرامه ، إدراكاً منه لإمكانية الإفلات من قبضة القانون بالرشوة أو بحماية بعض المسئولين ، فلا رادع يردعه حينئذ ، ومن ناحية أخرى قد يلجأ عامة الناس – في ظل فقد الثقة بقوة القانون – إلى حماية أنفسهم بأنفسهم دون اللجوء إلى الجهات الرسمية ، وبالتالي تتزايد جرائم الاعتداء على أنفس الناس وممتلكاتهم ، وتسود القوانين الهمجية كالأخذ بالثأر .
ناهيك عن أنه في ظل الضعف السياسي تتدهور – غالبا – الأحوال الاقتصادية للبلاد ، وينعكس هذا التدهور الاقتصادي على الحالة المعيشية لأفراد المجتمع ، وبالتالي تقوى احتمالات وقوع جرائم الرشوة والاختلاس والسرقة والغصب وتجارة المخدرات وممارسة البغاء والقتل في سبيل الحصول على الأموال !! . ويترتب على ذلك – وهو الأخطر - تطل رؤوس الفتنة التي تضر بمصلحة الدولة ، وتبرز أوكار الرذيلة وبؤر الفساد بشكل رسمي يصيب صرح الفضيلة والأخلاق بصدع تضعف به نظرة الاستنكار للسلوك الإجرامي فيزداد انتشارا .
في ظل الضعف السياسي يضعف إعداد العدة اللازمة لتأمين كيان الدولة فيطمع الطامعون في البلاد، ويبذلون جهودهم لفرض سيطرتهم عليها ، لا عسكرياً فحسب ، بل دينيا وثقافيا وأخلاقيا واجتماعيا … إلخ .
إن الخروج على الحاكم بغير حق خطب جلل يسطر بمداد أسود في صفحات التاريخ السياسي للأمم؛ لما يترتب عليه من آثار تزلزل أمن الأمة واستقرارها ، حيث يفقد القمة العليا للسلطة السياسية هيبتها في نفوس عامة الناس ، الأمر الذي يؤدي إلى انتشار السلوك الإجرامي .ويولد كثيراً من الصدام بين السلطة السياسية والخارجين عليها ، الأمر الذي قد يسفر عن قتل كثير من الأبرياء وانتشار الفوضى التي تمثل تربة خصبة للسلوك الإجرامي . و يوجه جهود السلطة السياسية للقضاء على الفتنة في مهدها قبل أن تأكل الأخضر واليابس ، ويشغلها عن عمليات التنمية والرقي وامتلاك زمام الأمن الداخلي ، الأمر الذي يمهد السبيل لانتشار السلوك الإجرامي .ويزلزل الأمن الداخلي وبالتالي الأمن الخارجي ؛ لأن الجبهة الداخلية إن كانت آمنة مستقرة تفرغت القوى لحراسة الحدود وصد المعتدين ، وبفقد الأمن الخارجي تزداد نسبة انتشار السلوك الإجرامي .
ومن خلال ما سبق من حديث حول الخلل السياسي المتعلق بالراعي والرعية يتضح أن هذا الخلل – الذي يعد من أبرز الدوافع السياسية للجريمة – يدور بين الإفراط  والتفريط ، أو يدور بين نقيضين : استبداد أو ضعف ، وطاعة مطلقة أو خروج على الحاكم.
                                                                         

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
;