هل
(هدم الكنائس) يدخِل النصارى في دين الله أفواجا؟!
(إنَّ انتشار الكفر في العالم يحمل نصف أوزاره متديِّنون بغَّضوا الله إلى خلقه
بسوء صنيعهم وسوء كلامهم)!
الشيخ/محمد الغزالي؛
*****
لا ندري لماذا حشد "ابن تيمية"
عدّته وعتاده، واستنفر كافة قواته، وكشَّر عن أنيابه، وأجلبَ بخيله ورجله على (أهل
الكتاب)؟!
فلمْ يكن –رحمه الله- موضوعياً في موقفه
المتعنِّت من أهل الذمة، بلْ خانه الصواب، وجافى ميزان الحق والعدل، وطفَّفَ
الكيل، وجاء ببضاعةٍ مزجاة!
ولمْ يقف رأيه المتشدِّد عند حد من المبالغة في
الجوْر والتعسّف، وضِيق الصدر، وأحادية النظرة، بلْ راح ينبش في بطون التراث، حتى
عثر على مرويات هزيلة، وضعها في غير موضعها؛ ليجد لكلامه سنداً شرعياً –كما في
كثيرٍ من ردوده مع مخالفيه!
وإنْ كان –رحمه الله- أخطأ في اجتهاده بشأن
(أهل الذمة) فأشدّ منه خطأً، وأكثر تطرفاً؛ أولئك الذين يباركون أخطاءه، ويلتمسون
الأعذار الواهية؛ زاعمين أنها كانت مناسبة لعصره!
بالله عليكم؛ هل إزالة الكنائس، وهدم البِيَع،
وسوء المعاملة، يدخل ضمن البر والقسط والإحسان الذي أمر به الحقّ جلَّ جلاله؟!
ويحكم أيها الأعراب؛ كيف تغفلون عن النصوص
القرآنية القاطعة، والوصايا النبوية الناصعة -التي تسجد لها العقول، وتهش لها
القلوب، وتنحني لها الهامات- لِما حملته من أساليب الحِلم، والعفو، والصفح الجميل،
و(أنْ تبروهم وتقسطوا إليهم)!
* * *
يقول ابن تيمية –رضي الله عنه- في
أحكام أهل الذمة (ج 2 / 677: 686): "إن كل
كنيسة في مصر والقاهرة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد ونحوها من الأمصار التي مصرها
المسلمون بأرض العنوة؛ فإنه يجب إزالتها إمَّا بالهدم أو غيرها، بحيث لا يبقى لهم
معبد في مصر مصره المسلمون بأرض العنوة، وسواء كانت تلك المعابد قديمة قبل الفتح
أو محدثة، لأن القديم منها يجوز أخذه ويجب عند المفسدة وقد نهى النبيّe أن تجتمع قبلتان
بأرض، فلا يجوز للمسلمين أن يمكِّنوا أن يكون بمدائن الإسلام قبلتان إلاَّ لضرورة
كالعهد القديم، لا سيما وهذه الكنائس التي بهذه الأمصار محدثة يظهر حدوثها بدلائل
متعددة والمحدث يهدم باتفاق الأئمة.
وأمَّا الكنائس التي بالصعيد وبر الشام ونحوها
من أرض العنوة فما كان منها محدثاً وجب هدمه، وإذا اشتبه المحدث بالقديم وجب هدمها
جميعا، لأن هدم المحدث واجب وهدم القديم جائز وما لا يتم الواجب إلاَّ به فهو واجب
.. فالواجب على ولي الأمر فعل ما أمر الله به وما هو أصلح للمسلمين من إعزاز دين
الله وقمع أعدائه وإتمام ما فعله الصحابة من إلزامهم بالشروط عليهم، ومنعهم من
الولايات في جميع أرض الإسلام ولا يلتفت في ذلك إلى مرجف أو مخذل يقول إن لنا
عندهم مساجد وأسرى نخاف عليهم، فإن الله تعالى يقول (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن
يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) وإذا كان فوروز في مملكة التتار قد
هدم عامة الكنائس على رغم أنف أعداء الله، فحزبُ الله المنصور وجنده الموعود
بالنصر إلى قيام الساعة أولى بذلك وأحق، فإنَّ النبيّeَ
أخبر أنهم لا يزالون ظاهرين إلى يوم القيامة، ونحن نرجو أن يحقق الله وعد رسولهe حيث قال
"يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها". ويكون
من أجرى الله ذلك على يديه، وأعان عليه من أهل القرآن والحديث داخلين في هذا
الحديث النبوي، فإنَّ الله بهم يقيم دينه كما قال "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات
وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد
ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز".
ويدعو –رضيَ الله عنه- إلى هدم الكنائس
المقامة في القرى والمدن التي يقطنها مسلمون، فيقول في مجموع الفتاوى (28:347):
"وهكذا القرية التي يكون أهلها نصارى وليس عندهم مسلمون ولا مسجد للمسلمين،
فإذا أقرهم المسلمون على كنائسهم جاز ذلك كما فعله
المسلمون، وأمَّا إذا سكنها المسلمون وبنوا فيها مساجدهم، فقد قال النبيّe: لا تصلح قبلتان
بأرض". وفى أثر آخر: "لا يجتمع بيت رحمة وبيت عذاب"!
وهذه الأحاديث التي استشهد بها ابن تيمية؛
واهية وضعيفة مثل آرائه، وإنْ صحَّتْ فقد فهمها على وجه خاطئ! لكنه سمح لنفسه
–فقط- بالاستشهاد بها، ولوْ أنَّ غيره استشهد برواية ضعيفة؛ لأقام عليه الدنيا
ولمْ يقعدها، ولرماه بالابتداع ومجافاة السنَّة، وغير ذلك من أساليب التسفيه التي
يستخدمها مع مخالفيه!
بلْ يزداد –قدس الله سره- غلوًّا إزاء معاملة المسيحيين، فيقول: "كان
ولاة الأمور الذين يهدمون كنائسهم ويقيمون أمر الله فيهم كعمر بن عبد العزيز
وهارون الرشيد ونحوهما، مؤيدين منصورين، وكان الذين بخلاف ذلك مقهورين مغلوبين،
وإنَّ صلاح الدين لم ينتصر على الصليبيين؛ إلاَّ لأنه أبعد النصارى عن أيّ ولاية
أوْ منصب". مجموع الفتاوى(348- 28).
* * *
يا أيها
الشيخ؛ ما هذا الخلط المتعمد للأوراق؟ وما هو دليلك على صحة آرائك؟
وكيف لمثلك أن يجهل النصوص الدينية الداعية إلى التسامح وحسن المعاملة، ومتى جاز
لك أنْ تغضَّ الطرف عنها؟ وهي كثيرة في هذا الباب، يعرفها الجاهل والعالِم!!
كما أنَّ التاريخ الإسلامي شاهد على ألوان
متعددة من تسامح المسلمين مع غيرهم، لم تعرف الدنيا لها مثيلا ... ونظراً لكثرتها،
فإننا سنذكر بعضاً منها –على سبيل المثال:
ففي مصر، سمح عمرو بن العاص للقبط ببناء الكنائس؛ فتمّ بناء كنيسة مار مرقص
بالإسكندرية، خلال ولايته الثانية (38-41هـ).
ومن بعده تواتر حُسن معاملة الأمراء للقبط في
سيرة الولاة، الذين تولوا مصر بعد عمرو، فساروا على منهجه، ولم يكتفوا بمساعدة
الأقباط على تجديد الكنائس القديمة، بلْ شجعوهم على بناء كنائس جديدة؛ فأول كنيسة
بُنيت في الفسطاط بحارة الروم كانت في ولاية مسلمة بن مخلد الأنصاري(47-63هـ)
وأنكر الجند على مسلمة، وقالوا: "أتُقِر لهم أن يبنوا الكنائس .. حتى كاد أن
يقع بينهم وبينه شر؛ فاحتجَّ عليهم مسلمة، وقال: إنها ليست في قيروانكم، وإنما هي
خارجة في أرضهم؛ فسكتوا عند ذلك".
ومن الكنائس التي تمَّ بناؤها في عصر
الولاة كنيسة أبي مقار، كما بُنيت عدة كنائس في ولاية عبد العزيز بن مروان (58-60
هـ) منها كنيسة مار جرجس، وكنيسة أبي قير، في داخل قصر الشمع، كما جُدِّدتْ كنيسة
القديس مرقص، وبُنيتْ عدة كنائس في حلوان، كذلك بُنيت عدة كنائس في خلافة هشام بن
عبد الملك(105-125هـ) ومنها ما أَذِن به واليه على مصر الوليد بن رفاعة
(109-116هـ) من بناء كنيسة أبي مينا، بخط الحمراء بظاهر الفُسطاط.
كما سمح الوالي العباسي موسى بن عيسى
(171-172هـ) للقبط ببناء الكنائس، التي هدمها الوالي الذي سبقه، ومنها كنيسة مريم،
وقد أيده في ذلك أكبر حُجّتيْن في الفقه الإسلامي وقتذاك، هما: الليث بن سعد، وعبد
الله بن لُهيعة، وقالا: "هو من عمارة البلاد، واحتجّا بأن عامة الكنائس التي
بمصر لم تُبنَ إلا في الإسلام، في زمن الصحابة والتابعين".
كما كثر إنشاء الكنائس بمدينة القاهرة،
حاضرة الفاطميين، وهذا الأمر لا يُعد غريباً؛ لأنَّ الفاطميين كانوا أكثر الحُكّام
تسامحاً تجاه أهل الذمة؛ فمع مجيء جوهر الصقلي، وإنشائه لمدينة القاهرة، اضطر إلى
هدم دير بالقرب من المدينة الجديدة، فعمّر ديراً آخر، سُمِّي بدير الخندق، عوضاً
عن الدير الذي هدمه، وكثرت الديّارات الخاصة بالنساء، ومنها دير الراهبات، بحارة
زويلة بالقاهرة، ودير البنات بحارة الروم، ثم كنيسة المغيثة بحارة الروم، وغيرها
من الكنائس.
ولا عجب أن تكون ثمرة هذه المعاملة الحسنة؛
أنْ يدخل النصارى –في العصر الفاطمي-في دين الله أفواجا! وهذه أول مرة منذ الفتح
الإسلامي؛ بشهادة جميع المؤرخين!
وذلك على عكس عصور القهر والاستبداد السياسي،
التي كثر فيها الرِّعاع، وعلتْ فيها أصوات الأدعياء، فشاع "الفقه
البدوي" و"التحجُّر الفكري" و"التراجع الحضاري"!
رحم
الله (الامام) الذي جلب عليه تعصبه، وإدمانه للمخالفة؛ كثيراً من الأخطاء!
كما
أوقعته نفسه المحتدِمة، والحدَّة التي كانت تعتريه؛ في كثيرٍ من المزالق، والتناقضات
الفجة!
0 التعليقات:
إرسال تعليق