الأربعاء، 20 نوفمبر 2013 0 التعليقات

وسائل الاتصال الإسلامي بالثقافة اليونانية


وسائل الاتصال الإسلامي بالثقافة اليونانية

 لقد دخل المسلمون حوض البحر المتوسط ، وهم حديثو عهد بعلوم كثيرة برع فيها العلماء اليونانيون في الشام ومصر وغيرهما من الأقاليم الرومانية، ولم يصحب المسلون معهم من الحجاز شيئاً كثيراً من العلوم أو التراث الثقافي، وإنما جاءوا فقط بالدين الإسلامي واللغة العربية، أما غير ذلك فقد اعتمدوا فيه على العلماء من أهل الشام ومصر المتشبعين بالثقافة اليونانية، وبذلك وضع المسلمون أيديهم على شطر ثمين من الحضارة اليونانية، غير أن المسلمين لم يلبثوا أن عملوا على تنمية نصيبهم من التراث اليوناني معتمدين على جهودهم الخاصة، والسؤال هنا هو : ما هي وسائل اتصال المسلمين بالثقافة والتراث اليوناني ؟
لقد اتصل المسلمون بالثقافة الرومانية بعدة طرق من بينها ما فتحه المسلمون من المراكز التي كانت معاقل مهمة للثقافة اليونانية كالإسكندرية وأنطاكية والرها ([1] ) ، وقد أقبل المسلمون إلى هذه المعاقل الثقافية يرتشفون من معين الحضارة اليونانية، فترددوا على المدارس المختلفة في تلك المدن وكانوا يتنافسون مع الأساتذة([2])، كذلك كانت القوافل التجارية إحدى سبل الاتصال الثقافي؛ فالسلع التجارية من وسائل تبادل المؤثرات الثقافية بين مختلف الأقاليم كذلك التقابل بين التجار العلماء ومحبي المعرفة([3] ) ، وتم الاتصال الثقافي عن طريق أسرى الجانبين الروماني والإسلامي، وبخاصة الرومانيون ؛ فقد كان بعض هؤلاء الأسرى يجيدون بعض المهارات والعلوم([4] ) ، وكذلك انتقلت العلوم والمعارف الرومانية إلى المسلمين عن طريق الزيارات المتبادلة بين الطرفين، وعلى سبيل المثال تروي المصادر العربية رحلة مجاهد بن يزيد ، وخالد البريدي سنة 102هـ / 720 م لمدينة أفسس([5]) لزيارة أصحاب الكهف([6] ) كذلك زيارة بعض الرومانيين لمسجد قبة الصخرة ومسجد دمشق الكبير([7] ) .
ويعلق فازيليف على مثل هذه الزيارات بأنها سفارات علمية لأنها صادرة من أشخاص معاصرين لفترة زمنية كانت الحروب فيها شديدة بين المسلمين والرومانيين وكان من الممكن أن يقوم بينهما نوع من الاتصال الثقافي، وقد كان هدف هذه البعثات منسجماً ومتفقاً مع عقلية العصور الوسطي ([8] ).
كما كان تعليم أولاد الخلفاء والأمراء إحدى وسائل الاتصال بالثقافة اليونانية ، حيث كان يقوم بتعليم الأولاد معلمون ينتقون بالأفضلية من بين الرومانيين المقيمين في الشام، فيوزعون على تلامذتهم ما اكتنزوا من العلوم اليونانية التي برعوا فيها([9] ) ، وعلي سبيل المثال يذكر يعقوب الرهاوي أن رجال دين قاموا بمهمة تعليم أبناء الخلفاء والأمراء المسلمين، وقد أفتى يعقوب الرهاوي لرجال الدين المسيحيين بأنه يحل لهم أن يعلموا أولاد المسلمين العلوم اليونانية([10] ) ، ويقال أن يزيد بن معاوية وكل أمر تعليم ابنه خالد العلوم اليونانية إلى الراهب مريانوس ، وأن عبد الملك بن مروان عهد إلى اثناسيوس الرهاوي تعليم أولاده العلوم اليونانية([11] ) ، وكان الخلفاء أنفسهم يحضرون دروس المعلم مراراً ويتفادون التدخل حتى إذا اضطر المعلم أن يعاقب تلميذه بقسوة([12] ) .
وكان لسماحة الإسلام في معاملة أهل الذمة وإباحة الزواج منهم أثر فعال في الاتصال الثقافي، فقد كانت الزيجات الناجحة التي تمت بين المسلمين والمسيحيات إحدى وسائل الاتصـال الثقافي في حالة تمتع الزوجة بقدر من الثقافة([13] ) ، وكان للصدقات التي كانت أواصرها مربوطة بين المسلمين والمسيحيين دورها الكبير في الاتصال الإسلامي بالثقافة اليونانية، فمثلاً يحملنا ميل معاوية إلى المسيحيين وعشرة ابنه يزيد بن معاوية للمسيحيين – يحملنا على الاعتقاد بأن ولي العهد ويوحنا الدمشقي بن سرجون رئيس ديوان المالية نهلا من ثقافة مشتركة في بعض العلوم اليونانية، وهكذا استفاد يزيد من التعلم على يد أسـاتذة يوحنا الدمشقي، واقتبس عنهم الثقافة اليونانية ([14] ).
وعلى هذا الأساس لم يترك المسلمون طريقاً للتزويد من علـوم اليونانيين إلا سلكوه ([15] ) ما دام لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية، ولم يتوان المسلمون في إغداق عطاياهم على العلماء الضليعين في العلوم اليونانية وغيرها، وضمهم إليهم والاستئثار بهم، ولكننا نجد في الوقت نفسه بعض المؤرخين الغربيين يخرج علينا ببعض الافتراءات، ومنهم على سبيل المثال فنلاى Finlay الذي ذكر أن الفتوح الإسلامية كانت من أهم أسباب تدهور الحضارة اليونانية وأن المسلمون حملوا تلك الحضارة فترة قصيرة، لكن سياستهم سرعان ما تغيرت، وتم تحريم كل ما هو يوناني([16] ). والسؤال هنا : هل فعلاً كان المسلمون السبب في تدهور الحضارة اليونانية ؟
إن الأبحاث الحديثة أثبتت بصورة قاطعة أن مراكز البحث العلمي والفلسفي اليوناني كانت منتشرة في الشام ومصر اللتين فتحها المسلمون ، وأن هذه المراكز لم يتوقف عملها العلمي. وقد قدم لنا ماكس مايرهوف بحثاً عن انتقال العلم اليوناني إلى العالم الإسلامي وأثبت في مطلعة أن مدرسة الإسكندرية كانت لا تزال قائمة وقت الفتح الإسلامي لمصر، وكانت هي المدرسة اليونانية البحتة الوحيدة التي بقيت في البلاد التي غزاها المسلمون، وأن المسلمين عرفوا منهج الدراسة في مدرسة الإسكندرية المتأخرة، وتابعوا لفترة من الزمن هذا المنهج. ومن أدلته على ذلك ما ذكره القفطى (ت646 هـ / 1248 م ) : " والإسكندرانيون هم الذين رتبوا بالإسكندرية دار العلم، ومجالس الدرس الطبي، وكانوا يقرأون كتب جالينوس ويرتبونها على الشكل الذي تقرأ عليه اليوم " ، ومن أدلته أيضاً قول حنين بن إسحق ( ت 264 هـ / 877 م ) في كتابه "في تاريخ الفلاسفة" بعد أن ذكر كتب جالينوس العشرين :" فهذه الكتب التي كان يقتصر على قراءتها في تعليم موضوع الطب بالإسكندرية، وكانوا يقرؤنها وكانوا يجتمعون في كل يوم على قراءة إمام منها و تفهمه، كما يجتمع أصحابنا اليوم من النصارى في مواضع التعليم التي تعرف بالأسكول في كل يوم على كتاب إمام، إما من كتب المتقدمين وإما من سائر الكتب " ويعلق ماكس مايرهوف على هذا بقوله : " وعلى هذا النحو بقيت الدراسة في الشرق والغرب طوال العصور الوسطي "([17])   
ومن الأدلة على أن المسلمين كانوا عَطاشا إلى العلم ويحافظون على استمرار جريان روافده من منابعها أن الخليفة عمر بن عبد العزيز نقل مدرسة الإسكندرية إلى أنطاكية([18] ) ، بعد أن أصبح من العسير وصول المخطوطات اليونانية من الإمبراطورية الرومانية إلى الإسكندرية لبعد المسافة ولصعوبة الرحلة التي تتكلف الكثير من الجهد والمال والأخطار، على عكس مدرسة أنطاكية . وأنطاكية هي إحدى مدن الثغور الواقعة تحت تأثير الجوار للحضارة اليونانية وكانت المخطوطات اليونانية تنتقل إليها من آسيا الصغرى في الفترات الحالية من الحروب([19] ) .
ويري فيليب حتى أن قيام الدولة الأموية في الشام كان حافزاً على انتقال العلم إلى موطن حكمهم، وذلك عن طريق تشجيع رعاياهم المتمكنين من العلوم اليونانية وغيرها على متابعة جهودهم، وقربوا إلى بلاطهم من يمكن الاستفادة منه حتى أضحت الشام تربة صالحة، لأن تنقل إليها معارف مدرسة الإسكندرية([20] )
وقال " داربر " المؤرخ الأمريكي : " كانت إدارة المدارس – بفضل سماحة الخلفاء ونبلهم – موكولة إلى النساطرة تارة، وإلى اليهود تارة أخرى، ولم يكن المسلمون ينظرون إلى البلد الذي عاش فيه العالم، ولا إلى الدين الذي يعتنقه. بل ينظرون إلى مكانته من العلم والمعرفة "([21] ) .
وقال أوسي Owsei : " لقد كان للمسلمين فضل كبير في الحفاظ على التراث اليوناني في قرون كانت ستجهض فيها مجهودات العلماء من اليونانيين وغيرهم ممن حمل الثقافة اليونانية كالنساطرة والسريان "([22] ) .
وعلى هذا الأساس فقد كان فنلاى Finlay مبالغاً في تصويره لما أصاب الثقافة اليونانية من اضمحلال على يد المسلمين ، بل العكس صحيح ؛ فقد كانت الثقافة اليونانية في روما نفسها تضمحل، وذلك لعدة أسباب منها أن القرن السابع الميلادي كما ذكرنا يمثل مرحلة تغيير كبيرة في اللغة والفكر ، فقد أصبحت اللغة اليونانية هي اللغة الرسمية بعد أن كانت لغة الدواوين لاتينية([23] ) ، وكان هذا سبباً في الفصل بين روما والغرب اللاتيني ومنع سبل الاتصال الثقافي مع الغرب الأوروبي، فقل وصول التراث الثقافي اللاتيني الغربي إلى روما([24] ) ، كما خضعت أجزاء من الإمبراطورية في شرق أوروبا مثل إيطاليا للشعوب المتبربرة، ففي المجمع الديني السادس تذمر البابا أغاثوا Agathoمن أن دراسة اللاهوت قد تدهورت تماماً، وأصبحت مستحيلة في إيطاليا تحت حكم وضغط اللمبارديين([25] ) .


وإذا نظرنا إلى المجتمع الروماني في القرن السابع والثامن الميلاديين، نجده ينقسم إلى ثلاث طبقات : الأولى : عبارة عن شريحة صغيرة من النخبة المثقفة المعروفة باسم Intellectual Elite ؛ الثانية : وهي شريحة أكبر من السابقة، وهي تجيد أو تعرف الكتابة فقط دون أن يكون لها أثر فكري ؛ والثالثة : وهي الشريحة الضخمة من الجماعة غير المتعلمة وهي تمثل أكثر من 95% من مجموع السكان([26] ) .
والطبقة الأولى والتي يشار إليها باسم Intellectual Elite هي المجموعة التي تلقت تعليمها في مدراس خاصة، حيث تعلموا اللغة اليونانية القديمة والخطابة، وكانوا مجهزين للعمل في وظيفة كاتم السر Sckreta التابعة لإدارة الإمبراطور، وثقافتهم من النوع الذي لا يسهل فهمه، لذلك هي مقتصرة عليهم، ومكتوبة بلغة حافلة بالأسرار والألغاز، وقد ارتكز استمرار هذه المجموعة أو الطبقة بالدرجة الأولي على بقاء مدراس من نوع خاص، وكان عددهم قليلاً جداً، وكان من سمات أسلوبهم الكتابي أنه سردي مطول، وكانوا يجيدون استخدام المصطلحات المصطنعة، وبطريقة تطمس الواقعية من الحياة الرومانية التي تحتاجها كتابتهم الوظيفية ([27] ) . 
كما أنه في بداية القرن الثامن الميلادي اشتعلت نار الحركة اللا أيقونية، ونتج عنها حرق مؤلفات الأيقونيين، كما كانت المؤلفات اللا أيقونية مكتوبة بصورة مشوشة في معظم أخبارها عن الأيقونيين لهذا كان القرنان السابع والثامن الميلاديان من أشد القرون عقماً في تاريخ الثقافة اليونانية([28]).


[1] ) إبراهيم العدوى : الدولة الإسلامية وإمبراطورية الروم، ص 163
[2] ) ابن عساكر : تاريخ دمشق ، ج 3 ص 177.
[3] ) ابن أبى أصيبعة : المصدر السابق ، ص 670.
[4] ) ابن أعثم الكوفي : الفتوح ، ج 2 . ص 111.
[5] ) أفسس : هي إحدى مدن ثيم التراقيسيون بآسيا الصغرى ، وهي مدينة أصحاب أهل الكهف الذين استشهدوا زمن الاضطهاد الديني للإمبراطور دقلديانوس 284- 305 م وقد ذكرهم القران الكريم في سورة الكهف
Ostrogosky : Byzantine State ., P 116 
[6] ) ابن خرداذبة : المصدر السابق ، ص 106- 107 ؛ العمري : مسالك الأبصار ، ج 1 ص 217 – 218.
[7] ) ابن عساكر : تاريخ دمشق ، ج 3 ، ص 80 .
[8] ) فازيليف : روما والإسلام ، ص 38.
[9] ) تتألف لوائح أسماء المدرسين في المدارس في القرن الأول الهجري من أسماء موالي وذميين تقريباً انظر . ابن رسته: مصدر سابق ص 216 - الجاحظ :البيان والتبيين. ج ،1 ص 101. ابن قتيبة : المعارف ، ص 185.
[10]( Lammanes : Etudes., P. 358
[11] ) وسام عبد العزيز فرج : العلاقات بين الإمبراطورية الرومانية والدولة الأموية، ص 404
[12] ) Lammanes : Etudes., 361
[13] ( Ibid : P. 332
[14] ) Ibid: p. 298 – 299.
[15] ) Ibid: p.300.
[16] ) Finlay : op. cit ., p 401.
[17] ) ماكس مايرهوف : من الإسكندرية إلي بغداد ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي بحث في كتاب التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية
[18] ) المسعودي: التنبيه والإشراف، ص121،123، ابن أبي أصيبعة: المصدر السابق،ج 1،ص 116،ج2، ص135.
[19] ) فتحي عثمان : الحدود . ج 3 ص 266.
[20] ) فيليب حتى : تاريخ سوريا ج 2 . ص 105.
[21] ) نقلاً عن الشيخ محمد عبده : الإسلام والنصرانية . ص 15
[22] ) Owsei : op. cit., p 116
[23] (Charanis : “ Ethnic Changes in seventh Century “ D.O.P., 1959., P. 25
[24] (Ostrogorosky : Byzantine State .,p.97; Charanis : Ethnic Changes ., P. 36
[25]) Bury : L. R.E ., Vol.II ., p. 391
[26] ( Mango: Discontinuity With The Clossical Past in Byzantium and its Maze., London: 1984., P. 49
[27] ) Ibid : p. 50.
[28] - أسد رستم : الرجع السابق ، ج 1 ، ص 284، 344

الاثنين، 18 نوفمبر 2013 0 التعليقات

«الهجرة النبوية..دروس في فن صناعة الأمل»


«الهجرة النبوية..دروس في فن صناعة الأمل»
ما أحوج المصريون في هذا الوقت العصيب، الذي تموج فيه البلاد بالفتن والصراعات والاغتيالات والجراحات إلى تعلم فن صناعة الأمل، ونحن نقف مع الهجرة النبوية لنأخذ منها دروسًا في ذلك، ففي إحدى ليالي الموسم بمنى، حيث تجمعت وفود من القبائل العربية للحج، وبين خيام هؤلاء الحجيج حيث كان المصطفى صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر الصديق يعرض نفسه ودعوته على الوفود العربية حتى سمعا ستة نفر منزوين يتحادثون ويتسامرون فاتجه صلى الله عليه وسلم وصاحبه إليهم، فقالا وقالوا، وتحدثا وسمعوا، وبينا فأصغوا، فانشرحت القلوب، ولانت الأفئدة، ونطقت الألسنة بالشهادتين، وإذا بأولئك النفر من شباب يثرب يُطلقون الشرارة الأولى من نار الإسلام العظيمة التي أحرقت الباطل فتركته هشيمًا تذروه الرياح. من كان يظن أن تلك الليلة كانت تشهد كتابة السطور الأولى لملحمة المجد والعزة؟ ومن كان يظن أن يكون أولئك النفر الستة بداية مرحلة جديدة من العز والتمكين، والبذرة الأولى لشجرة باسقة ظلت تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها؟
إن نصر الله يأتي للمؤمنين من حيث لا يحتسبوا ولا ُيقدّروا، لقد طاف رسول الله بمجتمعات القبائل وقصد الرؤساء وتوجه بالدعوة إلى الوجهاء وسار إلى الطائف، فعل ذلك كله عشر سنوات وهو يرجو أن يجد عند أصحاب الجاه والمنعة نصرة وتأييدًا، كان يقول في كل موسم:" من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي "، ومع كل هذا لم يجد من يؤويه ولا من ينصره، بل لقد كان الرجل من أهل اليمن أو من مضر يخرج إلى مكة فيأتيه قومه فيقولون له: احذر غلام قريشٍ لا يفتنك!
لم تأت النصرة والحماية والتمكين من تلك القبائل العظيمة ذات المال والسلاح، وإنما جاءت من ستة نفر جاؤوا على ضعف وقلة.
حقا عندما يأذن الله بالفرج من عنده، يأتي النصر من قلب المحنة، والنور من كبد الليل الحالك الظلمة، والله تعالى هو المؤيد والناصر، والبشر عاجزون أمام قدرة الله .. ستة نفر من أهل يثرب كلهم من الخزرج دعاهم رسول الله إلى الإسلام ولم يكن يتوقع منهم نصرة، وإنما أراد دعوتهم فآمنوا وأسلموا، ثم تتابعت الأحداث على نسق عجيب، قال جابر بن عبد الله - وكان أحد النفر الستة – حاكيا عن قصتهم -:" حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا، فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعًا فقلنا: حتى متى نترك رسول الله يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدموا عليه الموسم، فواعدناه العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال:" على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم وأزواجكم، ولكم الجنة "، قال جابر: فقمنا إليه فبايعناه". [مسند أحمد].
فاليعتبر كل المصريون من هذا المشهد؟! يُعرِض الكبراء والزعماء ويستكبر الملأ وتتألب القبائل وتتآمر الوفود وتُغلق الأبواب، ثم تكون بداية الخلاص بعد ذلك كله في ستة نفر لا حول لهم ولا قوة!
إن الله ليضع نصره حيث شاء وبيد من شاء، وعلينا أن نعمل على أن نحمل دعوتنا إلى المصالحة الجادة النقية بين كل أطياف المجتمع المصري لا إقصاء لأحد ولا احتقار لأحد ولا استكبار على أحد، وعلى كل المخلصين لهذا الوطن أن يسيروا في طريق المصالحة مهما يظلمُ الليل وتشتد الأحزان، فمن يدري لعل اللهَ يصنع لنا في حلكات ليلنا الداجي خيوط فجرٍ واعد، ومن يدري لعل آلامَنا هذه مَخاض العزة والتمكين.
وعلى أن كل حساب مادي يقطع بهلاك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كيف لا وهو في الدار والقوم محيطون بها إحاطة السوار بالمعصم، مع ذلك صنع النبي صلى الله عليه وسلم الأمل، وأوكل أمره إلى ربه وخرج يتلو قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأغْشَيْنَـٰهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ) [يس:9]. خرج الأسير المحصور يذر التراب على الرؤوس المستكبرة التي أرادت قتله، وكأن هذا التراب رمز الفشل والخيبة اللذين لزما المشركين فيما استقبلوا من أمرهم. فانظر كيف انبلج فجر الأمل من قلب ظلمة سوداء. ويمضي الرسول صلى الله عليه وسلم في طريقه يحث الخطى حتى انتهى وصاحبه إلى بلغ غار ثور، وهو على جبل شامخ وعر الطريق صعب المرتقى، ومكثا هناك ثلاثة أيام.
ومرة أخرى يصنع الأمل في قلب المحنة، وتتغشى القلوب سكينة من الله وهي في أتون القلق والتوجس والخوف. يصل المطاردون إلى باب الغار، ويسمع الصاحبان في الغار وقع أقدامهم، ويهمس أبو بكر: يا رسول الله ، لو أن بعضَهم طأطأ بصَره لرآنا! فيقول :" يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!".
 وكان ما كان، ورجع المشركون بعد أن لم يكن بينهم وبين مطلوبهم إلا خُطوات. فانظر مرة أخرى كيف تنقشع عتمة الليل عن صباح جميل، وكيف تتغشى عنايةُ الله عبَاده المؤمنين، (إِنَّ ٱللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ) [الحج:38].
ويسير الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في طريق طويل موحش غير مأهول، لا خفارة لهما من بشر، ولا سلاح عندهما يقيهما حتى إذا كانا في طريق الساحل لحق بهما سراقة بن مالك طامعًا في جائزة قريش مؤملاً أن ينال منهما ما عجزت عنه قريش كلها، فطفق يشتد حتى دنا منهما وسمع قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومرة ثالثة، وهذا الفارس على وشك أن يقبض عليهما ليقودهما أسيرين إلى قريش تذيقهما النكال، مرة ثالثة يصنع الأمل، ولا يلتفت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى سراقة ولا يبالي به وكأن شيئًا لم يكن، يقول له أبو بكر: يا رسول الله، هذا الطلب قد لحقنا، فيقول له مقالته الأولى: لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].
لقد اصطنع الأمل في الله ونصره فنصره الله وساخت قدما فرس سراقة، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء كالدخان، فأدرك سراقة أنهم ممنوعون منه. ومرة ثالثة جاء النصر للرسول صلى الله عليه وسلم من حيث لا يحتسب، وعاد سراقة يقول لكل من قابله في طريقه ذاك: ارجع فقد كفيتكم ما ها هنا، فكان أول النهارِ جاهدًا عليهِما وآخرَه حارسًا لهما.. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضيق إلى أمل حتى قدم المدينة ..
هكذا، تعلمنا الهجرةُ في كل فصل من فصولِها كيف نصنعُ الأمل، ونترقب ولادةَ النورِ من رحم الظلمة، وخروج الخير من قلب الشر، وانبثاق الفرج من كبد الأزمات. فما بعد اشتدادِ ألمِ المخاضِ إلا الولادة، وليس بعد ظلمةِ الليل إلا انبثاق الفجر، (فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح:5، 6]، ولن يغلب عسرٌ يسرين، فابشروا وأملوا وعودوا واستغفروا الله.
     فهل يدرك هذه المعانى المصريون المتعلقون بأذيال الماديةِ الصارخةِ والنافضون أيديَهم من قدرة الله وعظمته؟! وهل يدرك هذا المعنى المصريون الغارقون في تشاؤمهم اليائسون من فرج قريب لهذه الدولة المنكوبةِ بالفتن التي تقصف أعمار خيرة شبابها؟!

د/عبدالوهاب القرش
دكتوراه في العلوم الإسلامية
الخميس، 14 نوفمبر 2013 0 التعليقات

«القرآن الكريم وبراعة العرب في الحفظ والكتابة»


«القرآن الكريم وبراعة العرب في الحفظ والكتابة»
ينفرد القرآن من بين ما عرفت البشرية من كتب، بأن له نصا واحدا، حيثما سرنا وأنى طوفنا فى الزمان أو المكان، ولكن كيف وصل به إلينا وهو الكتابة، حيث لم يعتد العرب أن يدونوا آثارهم فهم شعب أمى لا يقرأ فى مجموعة ولا يكتب، ومن هنا كانوا يعتمدون على قوة الحافظة فى أداء ما يتعين عليهم أداؤه.
يروى عن أبي جعفر المنصور - الخليفة العباسى الثانى - فى معرض الإشارة إلى نجله ورغبته فى عدم إجازة الشعراء، أنه كان يحفظ القصيدة التى تتلى أمامه بمجرد إلقائها، ولديه عبد رقيق كان يحفظ القصيدة إذا سمعها مرتين، ولديه جارية تحفظ القصيدة بمجرد تكرارها أمامها ثلاث مرات، وعلى هذا الأساس كان يقول لأى شاعر يفد عليه بعد أن يتلو عليه القصيدة، أنه قد سبق إليها وليست من إنشائه، بدليل أنه يحفظها ويعيد المنصور إلقاء القصيدة. ثم يتلوه العبد فالجارية.
وسواء صحت هذه القصة أم لا، فهى صادقة من حيث أن ذلك كان شأن العرب فيما يلقى عليهم من أحاديث. فالبعض كان يحفظها بمجرد سماعها ويستطيع أن يؤديها بألفاظها. والبعض يحتاج إلى تكرارها مرتين أو ثلاثا وهكذا. والمهم أن هذه هى الوسيلة الوحيدة ليعرف أى عربى من هم آباؤه وأجداده. وماذا له من حقوق وما عليه من واجبات، وماذا قال الشعراء فى مدحه أو مدح قبيلته، وماذا قالوا فى هجوه أو هجو قبيلته.. لا سبيل غير النقل بالفم والسماع فالحفظ.
إن ملكات الإنسان وقدراته وطاقاته تضعف كلما كثر اعتماده على الآلة. وفى عصرنا الحديث بعد أن أصبحنا نعتمد على الكتابة والتسجيل بالصورة، والصوت، والسينما والتلفيزيون، وانتشار الصحف والكتب، وتوفر كل ذلك على الإنترنت قد ضعفت حافظة الإنسان بصفة عامة لعدم ضرورتها له. ومن هنا فلن نستطيع أن نتصور ما كان عليه الإنسان فى الماضى، عندما كان يكفى بعض الأشخاص أن يطالع الكتاب مرة واحدة، أو يسمع القصيدة مرة واحدة لكى يحفظها على الفور، وهذا ما يجعل بعض البسطاء والسذج ينكرون ما يقال لهم أو يطالعونه من هذا القبيل، ولكن لو تذكر الإنسان كيف أنه أصبح لا يستطيع اليوم أن يقطع بضع كيلومترات سيرا على الأقدام بعد أن توافرت وسائل المواصلات الآلية، بينما كانت الجيوش المصرية أو الإغريقية أو الرومانية ومن بعدها الإسلامية تقطع عشرات الألاف من الكيلومترات سيرا على أقدامها.
وقبل اختراع العقول الالكترونية، كان علماء الرياضيات يجرون كل الحسابات الفلكية على الورق، واليوم لا يستطيع أكبر العلماء أن يجرى أبسط العمليات الحسابية التى كان يجريها علماء الأمس، لأن الآلات الحاسبة فضلا عن العقول الالكترونية أصبحت تغنيه عن ذلك.
وعلى هذا القياس، يجب أن ندرك ما الذى تعنيه قوة الحافظة عند العرب، فقد كانت وسيلتهم الوحيدة التى لا وسيلة غيرها، لاستيعاب أى أمر يريدون استيعابه، ولنقل أى رسالة يريدون نقلها، ولاختزان أى معرفة يريدون اختزانها.
ومن أراد أن يرى المعجب والمذهل حتى فى عصرنا الحديث من هذه الناحية، فما عليه إلا أن يذهب إلى مواطن البدو فى الصحارى العربية، ليرى كيف أن البعض منهم يكاد يصل إلى قوة جهاز التسجيل من حيث رصده لكل ما يقال أمامه، واستطاعته تكراره بعد ذلك.
وقد عرفنا أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان يمارس هذه الحقيقة بنفسه، فقد كان يعى القرآن بمجرد أن يوحى إليه به فينطق به ثم يحفظه على الفور بحيث يكرره بنصه كلما احتاج إلى تكراره، وبالرغم من أنه كان محاطا بنفر من أصحابه فى مثل قدرته على الحفظ بمجرد تلاوة القرآن عليهم، فقد أبى ألا أن يدون القرآن بالكتابة، إيمانا منه بأنه من غير كلام البشر، وأنه من غير كلامه هو نفسه الذى يسوقه فى شتى المناسبات، ولذلك فقد حق لكلام الله أن يدون بالكتابة ليختلف عن باقى كلام البشر. ولم يكن بمحض الصدفة أن تكون أول آيات نزلت على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيها إشارة إلى أن القلم هو سبيل العلم: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ).
لقد فهم الرسول صلى الله عليه وسلم الإشارة الإلهية، فراح يقيد بالقلم ما هبط عليه من الوحى، ولم يكن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يقرأ أو يكتب، فليكتب له من يستطيعون الكتابة. وإذا كان هؤلاء الذين يعرفون القراءة والكتابة قليلا فى مكة، وأقل منهم بين الصحابة، فإن عددهم قد تزايد بعد أن وصل إلى المدينة، وقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يعلم أكبر عدد من أبناء الصحابة الكتابة، حتى لقد روى أنه جعل فداء أسرى بدر من المشركين أن يعلم القادر منهم عشرة من أبناء الصحابة القراءة والكتابة.

وكان القرآن يكتب فى الرقاع وفى صحف الجلد وفى العسب وهو جريد النحل واللخاف وهو صفائح الحجارة.وقد تواجد القرآن مكتوبا يتداوله الصحابة منذ عصر مبكر، ففى قصة إسلام عمر بن الخطاب حديث عن سورة طه مكتوبة على أديم من الجلد، وهى التى قرأها سيدنا عمر فكانت سبب إسلامه.
                                               د/عبدالوهاب القرش
                                              دكتوراه في العلوم الإسلامية
 
;