أنبياء الله في مصر.. إبراهيم
عليه السلام
ولد إبراهيم عليه
السلام في بلدة (فدام فرام) في مدينة (أور) بجنوب العراق في بلاد بابل عام (1996 ق
م) ويرجع نسبه إلى سام بن نوح عليه السلام([1]) ،وهو بذلك نبي من
الأنبياء الساميين، ونسبه القريب يرجع إلى القبائل الآرامية([2])، وفي التوراة يصفه
حفيده يعقوب عليهما السلام بأنه:" الآرمي التائه "([3]) وكان إبراهيم عليه
السلام يتكلم اللغة الآرامية التي تتكلم بها كل القبائل العراق والشام([4])
فكان إبراهيم عليه السلام آرامي الجنس واللغة.
وكانت القبائل الآرامية
من أهل بابل في زمن إبراهيم عليه السلام يتخبطون في ظلمات الشرك والوثنية فعبدوا
الأصنام والكواكب من دون الله، وعظموا ملكهم النمرود بن كنعان الذي نصب نفسه إلها
وأمرهم بعبادته([5]).
وكان آزر والد إبراهيم يعمل نحاتا يصنع التماثيل والأصنام ويبيعها للقوم([6]).
كانت هذه حالة القبائل الآرامية التي شاركت - فيما بعد – في تكوين جحافل الهكسوس (العماليق)([7])..وكان من بين هذه القبائل البدوية الرعوية شاب آرامي راعي غنم اجتباه الله واصطفاه لهداية أولئك الكفرة المشركين المفسدين،وكانت أول خطوة في لإعداد الله سبحانه وتعالى لإبراهيم، هي إلهامه بفكرة التوحيد،فبدأ بالتفكير فيما حوله من ملكوت السماوات والأرض، وبدأ يشتعل في عقله التساؤل: من خلق هذه الحياة؟ تأمل في النجوم والكواكب في السماء، وتذكر أصنام قومه عديدة الأسماء، من يا ترى من بين كل هؤلاء هو الإله؟ وهل هو واحد أم أنهم شركاء؟ وهل وهل وهل؟ آلاف أسئلة تشغي وتزداد اشتعالا ، وتكاد الحيرة تقتله، وأدركته رحمة الرحمن العليم، فأتاه رشده واهتدى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}(الأنبياء:51).
لقد كان وحى الله
سبحانه وتعالى لإبراهيم عليه السلام بأن الله واحد أحد فرد صمد بمثابة شعاع النور الذي
غمر قلبه وأضاء عقله وسط الظلام الكثيف للكفر والشرك ودنس الوثنية.
بدأت رحلة إبراهيم عليه
السلام في إخراج الناس من هذا الفساد العقدي والشرك والوثنية وعبادة الكواكب إلى
عبادة الله عز وجل.وكان آنذاك يناهز العشرين من عمره([8]) أو نحو ذلك([9]).
وكان أبيه آزر هو الهدف
الأول لإبراهيم عليه السلام في الدعوة إلى عبادة الله، لأن أبيه هو أحق الناس
بإخلاص النصيحة له، وفي هذا يقول تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ
إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً* إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ
لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً؟!..إلخ..
يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ
عَصِيّاً}(مريم:41-44 ).كما نهاه عن عبادة الأصنام{وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ
وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}(الأنعام:74).
ثم امتد نصح إبراهيم
عليه السلام ليشمل أبيه وقومه من البدو الآراميين {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ}(الصافات:85-86).
ثم قال لما يئس من
إستجابتهم لدعوته {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا
يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ *أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}(الأنبياء:66-67).
وفي نهاية مرحلة دعوة إبراهيم
أبيه وقومه في أور لم يؤمن به أحد، وهذا دليل قاطع على تأصل الكفر والوثنية في
نفوس أولئك البدو من الآراميين وغيرهم، ولم يكتف هؤلاء الكفرة الغلاظ برفض الدعوة
وفقط، بل قرورا قتل إبراهيم عليه السلام حرقا { قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا
آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}(الأنبياء:68).لكن نجاه الله منهم ومن
كيدهم{قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ *
وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}(الأنبياء:69-70).
وبعد هذه المحنة والمنحة فر إبراهيم بنفسه وبدينه إلى مدينة حران بأقصى شمال سوريا([10]).وكان أهل حران من البدو الآراميين – أيضا – وكانوا يعبدون الأصنام والكواكب([11]) وتذكر التوراة أن:"إبراهيم قد مكث في حران –وسط الوثنيين المشركين –حتى بلغ عمره (75) سنة "([12]). وخلال هذه الفترة تزوج إبراهيم عليه السلام من السيدة سارة الآرامية، وهي من حران ([13]).
وبالرغم من هذه المدة
الطويلة التي قضاها إبراهيم عليه السلام في حران – حوالي نصف قرن- لم يستجب لدعوته
إلا اثنين فقط زوجته سارة، وابن أخيه لوط ([14]).وهذا تأكيد على تأصل
الكفر والشرك في نفوس البدو الآراميين وغيرهم في حران أيضا.
انتقل إبراهيم عليه السلام من حران إلى فلسطين ولم يمكث بها إلا فترة قصيرة جدا([15])، فانتقل إبراهيم إلى مصر- وكانت بصحبته زوجته سارة -، وكان المسيطر على أمور مصر آنذاك أول ملوك العماليق الهكسوس([16]) ويدعى سنان([17]).
ومن الطبيعي أن يكون
إبراهيم الآرامي الجنس واللغة مبعوثا إلى أولئك الهكسوس الذين كانونا من القبائل
الآرامية، وغيرها مما يقاربها في الجنس واللغة، والقرآن الكريم يؤكد أن الله
سبحانه وتعالى إذا شاء أن يبعث رسولا إلى قوم لابد أن يكون منهم من نفس جنسهم،
يقول تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً}(النحل:36) ويتحدث
بنفس لغتهم:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ
لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}(إبراهيم:4).إذن لا شك أن إبراهيم عليه السلام كان
مبعوثا إلى أولئك البدو الهكسوس، لإخراجهم من ظلمات شركهم ووثنيتهم إلى عبادة
الله، وقد توجه بدعوته إلى ملك الهكسوس عندما التقى به ([18])،على أن دعوة إبراهيم
كانت موجهة - ومركزة على وجه الخصوص – إلى أولئك الهكسوس المقيمين خارج مصر،إذ أن
إقامته بمصر لم تستمر إلا سنوات قلائل([19]).
كما أن دعوة إبراهيم
عليه السلام لم تكن موجهة –أيضا – إلى المصريين القدماء، وهذا أمر منطقي فيكفي
عائق اللغة وحده ليؤكد ذلك، فيقول تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ
إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}.
وهذا الأمر له دلالة
هامة، فلو كان القدماء المصريين آنذاك مشركين وثنيين، لبعث الله الرسل إليهم
لهدايتهم، كما بعث إبراهيم عليه السلام إلى أولئك البدو المشركيين الوثنيين
لهدايتهم إلى التوحيد..لكن ذلك لم يحدث لسبب بسيط، هو أن المصريين القدماء كانوا
في عهد إبراهيم ومن قبل من الموحدين بالفعل، ومن المؤمنين حق الإيمان، وكانت كلمة
الله عندهم هي القوة التي تفعل ما تريد.
وينقل العقاد عن المؤرخ
اليهودي يوسفيوس أن إبراهيم عندما جاء إلى مصر، كان من أهم أهدافه الالتقاء بكهنة
المعابد المصرية، لسماع ما يقولونه عن الإله الواحد..وكان في نفس إبراهيم، إذا علم
من كلامهم خير مما عنده أن يتقبله([20]).
عاد إبراهيم عليه السلام إلى فلسطين، حيث استقر هناك إلى آخر أيام حياته. أقام إبراهيم عليه السلام في فلسطين جيث تموج بالقبائل الآرامية التي من نفس جنس ولغة قبائل الهكسوس في مصر، ووسط هذه القبائل أخذ يدعو إلى عبادة الله ونبذ عبادة النجوم والكواكب والأوثان، وبدأ بعشيرته الأقربين من الآراميين، فمنهم من آمن واستجاب وسار من أتباعه، ومنهم من أعرض وعصى{..وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ*رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }(إبراهيم:35-36).
([2])
يؤكد المؤرخون أن القبائل الآرامية ترجع إلى الأصل العربي فهي والعرب البائدة أو
العرب العاربة من أصل واحد،ووكان موطنهم الأصلي بادية الشام والهلال الخصيب أي
(سوريا ولبنا وفلسطين،وشرق الأردن والعراق) وهناك إشارة إلى مدينة تدعى آرامي وإلى
أشخاص يحملون اسم آرامو في المخطوطات الأكادية،ومخطوطات سلالة أور الثالثة، وفي
مدونات المملكة البابلية القديمة.انظر:أحمد سوسة: تاريخ وادي الرافدين،2/335.جورج
رو:العراق القديم،368؛
([7])
عماليق:لفظ مركب من مقطعين:الأول:عمو: أي البدو وهو الأسم الذي أطلقه المصريون القدماء على البدو
القاطنين بالشام وبلاد الرافدين (العراق)؛الثاني:ليق:مصطلح آرامي يرتبط بالجنود،
وفي حضارات العراق القديم كان يتم تجنيد البدو للعمل كفرق من الجنود المرتزقة في
خدمة الدولة،أي أن مصطلح (العماليق)يشير باختصار إلى (الجنود البدو).للمزيد انظر: لويس
عوض:مقدمة في فقه اللغة العربية،ص271؛بدوي و هيرمان كيس:قاموس،ص33؛جارندر:مصر
الفراعنة،ص163؛نعمات فؤاد:شخصية مصر،2/293،طه باقر:مقدمة في تاريخ الحضارات
القديمة،1/407،411؛سامي سعيد:العراق القديم،1/289.
([16])
الهكسوس:تعني حكام البدو أو الملوك الرعاة، وكانوا خليطا متحالفا من قبائل مختلفة
الجنسيات أحداها القبائل الآرامية،أنظر:عزة دروزة:تاريخ الجنس العربي2/119؛موسوعة
وصف مصر2/331؛لويس عوض:مقدمة في فقه اللغة العربية/ص272؛جرجي زيدان:تاريخ الجنس
العربي،4/272؛عبد الفتاح الزهيري:الموجز في تاريخ الصابئة،ص38.
0 التعليقات:
إرسال تعليق