الخميس، 15 أغسطس 2013 0 التعليقات

«الدعاة إلى الله وفتاوى الكيل بمكيالين»



«الدعاة إلى الله..وفتاوى الكيل بمكيالين»
من يقرأ كتب السير والتراجم للدعاة والعلماء والمفكرين ذوي الاهتمامات المتعددة العاملين في حقل الدعوة الإسلامية في الماضي، يلاحظ دونما تعمق أو إجهاد ذهن شيئا يطبعهم بطابع موحد، وهو ابتعادهم عن " الانتمائية " - اللهم إلا الانتماء إلى الإسلام الذي يؤمنون به ، ويدعون إليه على بصيرة – فهم " حق مشاع " لكل الناس؛ لإن الإسلام الذي يدعون إليه دين ارتضاه الله رب العالمين لكل الناس، وهم دعاة المجتمع البشري على اختلاف الأجناس والألوان، وطبقات والقطاعات،لا دعاة طبقة دون أخرى أو نوع من الناس دون آخر..كان الناس يجلسون إليه فيستمعون منه من تعاليم الكتاب والسنة وإرشادات الإسلام ما يسيغه العقل وينجذب إليه القلب توا، لكونه مجردا عن طابع الانتمائية أو الحزبية التي لا تدع الناس حتى توزعهم في طبقات وتصنفهم في أسر.
أما داعاة اليوم - إلا من رحم ربك – فهم ذو انتمائية أو حزبية أو جماعية، فهم ليس بداعاة للناس جميعا، ولكن داعاة لكيانات لها سياسة خاصة ، ودعاة هذه الكيانات لا تدعو إلى الإسلام الصافي النقي كما نعرفه، لكنهم كأنما يلقون الإيمان أولا بأفكار وتصورات أوحت له بها هذه الكيانات التي التي يعمل لديها، وهي كيانات ملتوية لم يستقم فهمها للدين، تدعي أنها تسعى لتحرير الشعوب العربية من استبداد حكامها في الوقت الذي تضع – بكامل إرادتها - أرضها وسياستها ومقدراتها وشعبها في أغلال وأصفاد السياسة الأجنبية، ألم يقرأ دعاة القوم قول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم) [المائدة:51]. إن مثل هؤلاء إيمانهم مهزوز الجذور فقد والوا غير المسلمين وطلبوا من عندهم العزة والمنعة، ومن يطلب العزة من غير الله يذله الله!!.
والدعاة الذين يسلكون هذا المسلك دائما ما يتخبطون في فتاويهم فنرى بعضهم يحلل ما حرم الله فيفتى بإستشهاد من قتل نفسه حرقا بالنار، مخالفا قول النبي صلى الله عليه وسلم :" من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة " [رواه أبو عَوانة في مستخرجه]. وقوله صلى الله عليه وسلم:" من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجا بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلدا فيها أبداً، ومن شرب سماً فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداُ فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلدا فيها أبدا " [أخرجه مسلم]!!.
ويتخبط هؤلاء الدعاة كثيرا في فتاويهم السياسية والاجتماعية، فيفتى بعضهم بتحريم الدخول في الإنتخابات لأنها غير شرعية، ولم تمر أيام قليلة ويرشح أحد أصدقاء أحد هؤلاء الدعاة نفسه في نفس هذه الانتخابات المصرية، ومجددا تصدر – من خلال هؤلاء الدعاة - فتوى عكس السابقة تماما تقضي بوجوب المشاركة في الانتخابات، بل جعلها " شهادة واجبة " يأثم كاتمها، مع العلم أن هذا المرشح كان قد أنشق عن الجماعة التي ينتمي إليها هؤلاء الداعاة، ولما جانب التوفيق هذا المرشح، ونجح مرشح جماعته في الانتخابات، فرحوا وهللوا ونسوا تماما بأنهم – على أحد مواقعهم الالكترونية- قد شبهوا قادة هذه الجماعة - بما فيهم المرشح الفائز – بأنهم كالنطيحة والمتردية وغير ذلك من أوصاف!!.
ونرى أحدهم يفتي بالخروج على الحكام منذ بدأت اشتعال الثورات العربية بل كان يستعدي الغرب وأمريكا بالخصوص،على الدول العربية فرأينا ذلك مع حاكم ليبيا وما حاكم سوريا،لقد مات من المسلمين مايربوا عن مئتي ألف بسبب فتاويه المضللة، والشيء الذي يطير العقل أن الشعب المصري عندما خرج على حاكمه السابق،أفتى بحرمة الخروج عن الحاكم المسلم، واستعدى العالم من شرقه وغربه على شعب مصرالذي - للأسف – ينتمي إليه!!.
حرام على مثل هذا النفر من الدعاة الذين يقودون سفينة الأمة فكريا وعقديا وإصلاحيا وتوجيهيا أن يكونوا أولي " انحيازية " ممقوته لا يعرفها الإسلام، أو حزبية أو جماعية ليس لها قيمة في ميزان الإسلام، وما عرفها الصحابة والتابعون لهم بإحسان، أو يتعصبوا لحزب ما أو جماعة ما عصبية منتنة ندد بها نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم.
ترى ماذا تجني الأمة الإسلامية من مكسب مر، إذا كانت عقولها المفكرة وقلوبها النابضة – وهي طبقة الدعاة والمفكرين – تتصف بضيق الصدر والأفق، ويدعو العالم منها إلى حزب أو جماعة أو أكثر من أن يكون داعيا إلى الله وإلى الدين الإسلامي؟!!.
ونصيحتنا لدعاة هذا العصر المائج بالخلافات والحواجز: لن يستطيع الداعية أن يؤدي دوره إلا إذا كان فوق كل الانتماءات، حتى يكون الداعية مكتملا، ومحببا لدى كل الناس، وإلا فسيؤدي نشاطه إلى نتائج عكسية في كثير من الجوانب تضر الأمة ولا تنفعها، وتفرقها ولا توحدها.


                                                 د/عبدالوهاب القرش
                                              دكتوراه في العلوم الإسلامية
الثلاثاء، 13 أغسطس 2013 0 التعليقات

معوقات في طريق المصالحة الوطنية


«معوقات في طريق المصالحة الوطنية»
بعد عزل الرئيس محمد مرسي اندلعت الكثير من الاحتجاجات والمظاهرات وأقيمت الاعتصامات، تخللها كثير من انتهاكات على الممتلكات العامة والخاصة، وكان لها أثرها في سقوط الكثير من الضحايا، واستمر الحال أكثر من أربعين يوما بعدها اضطرت الحكومة المصرية إلى فض الاعتصامات وسقط ضحايا آخرون من المعتصمين ومن مفضي الاعتصام، ومنذ عزل الرئيس مرسي وحتى الآن تسعى الدولة جاهدة إلى الدعوة للمصالحة الوطنية، ورغم ذلك لم تنجح لوجود عوائق كثيرة،منها على مستوى الدولة ومنها على مستوى المجتمع.والجماعات الدينية.
أما على مستوى الدولة فتوجد قيود على بعض مسائل الحوار وموضوعاته، فالدولة هي الطرف الأقوى سلطاناً ومالاً ونفوذاً، ولذا يتم كبت المعارضة ولو كانت على حق في بعض ما تدعو إليه أو تطالب به، ومن ثم تفرض الدولة الحلول الأمنية بوصفها أسهل الحلول لديها، ولكن المعالجات الأمنية لا تحل المشكلات بل تؤجلها وتدفع إلى العمل السري المختفي عن أعين الدولة، ومن ثم تنشأ المشكلات التي تعاني المجتمعات المسلمة من ويلاتها حتى اليوم.
أما على المستوى الاجتماعي فنجد هذه القيود نفسها من الطرف الأقوى، على مستوى الأحزاب والجماعات والقبائل والأسر.. ثمة أنواع من الضغط وإهمال الحوار والتشاور والتفرد باتخاذ القرار، وهذا كله مخالف للمنهج الإسلامي في الحوار قرآناً وسنة.
أما على مستوى الجماعات الدينية التي تسمى" الأصولية " وهي الداعية صراحة إلى العودة إلى أصول الإسلام الصافية، مع اختلاف مناهجها في تحقيق تلك الدعوة، هذه الجماعات تتمسك بأصول ثابتة ترى فيها الحق كله ولا تبيح أو تقبل ما سواها، والنخب السياسية لدينا منفتحة على العالم بفعل الاحتكاك المباشر بغير المسلمين، وكثير من هذه النخب يرى التمسك بتلك الأصول التي تدعو إليها الجماعات الدينية، يرى ذلك عبئاً عليه، وقد يعرضه للمساءلة أمام الشعوب أو الاتهام بالأصولية من جانب غير المسلمين، وهي أمور تكرهها النخب السياسية لا ريب، ولهذا تترك هذه النخب معالجة المسألة برمتها - مسألة الصدام مع الجماعات الدينية - تتركها للمحور الأمني ليتعامل معها دون فتح حوار معها، وهو تعامل بتفويض مطلق ومسبق من النخبة السياسية بإطلاق يد الأمن في التعامل بدون حدود أو قوانين ضابطة، ومن ثم يقع الصدام والتناحر، إنها حلقة مفرغة كان من الممكن أن يكون للحوار دور في إصلاحها، ولكن ذلك لـمّا يحدثْ !
أضف إلى هذا أن الأطراف القوية في المعادلة عادة ما تفرض شروطاً مسبقة للحوار، مما يجهض عملية الحوار ابتداءً، ويخرج المسائل الجوهرية المراد النقاش حولها من دوائر الحوار. كما أن النخب السياسية قد ترى نفسها مشغولة بأمور كثيرة وواقعة تحت ضغوط دولية شديدة لا يشعر بها عامة الناس.
يا سادة إننا بحاجة إلى حوار جاد مع الذين لم يحملوا السلاح ولم يحرضوا على القتل من هؤلاء، أما الذين حملوا السلاح وخرجوا على الحكام فلهم شأن آخر وهو المثول أمام القضاء العادل والعاجل. 
أيها المسلمون: من المعلوم في القرآن والسنة أنه لم تكن ثمة موضوعات خارج نطاق الحوار أو التفكير الإنساني، فكل شيء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته بل خاصة أمره كان قابلاً للنقاش والحـوار، والسنة والسيرة النبوية مليئة بالأخبار. ومن أمثلة ذلك - وهو من أعجب ما نراه في السنة - هذا الحوار الداخلي بين الإنسان ونفسه، وهو - وإن كان فيه وسواس من الشيطان - فإنه حوار داخلي يبين بجلاء أنه ليس هنالك ممنوعات في الحوار ؛ لأن الحوار يظهر الحق جلياً، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" لا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ: هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ " (رواه مسلم) هذا أخطر أمور الحياة كلها وجوهر الوجود: التوحيد، ومع ذلك فهو قابل للتساؤل والحوار لإظهار وجه الحق لا للاستمرار في الشك، والحوار حول التوحيد في القرآن كثير كما هو معلوم والحق في نفسه لا يضره النقاش حوله لأنه يزيده وضوحاً وبياناً، وإنما يخاف من ذلك ضعيف الحجة فاقد البيّنة، وإذا كان هذا في شأن العقيدة، فما ظننا بما هو أقل منها من مسائل الحياة والمصالح الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ؟ لماذا نجد كل هذه الملفات المغلقة والمسكوت عنها في جوانب شتى من حياتنا الإسلامية المعاصرة؟
  هذا هو الإسلام وهذه حياتنا، والفلاح لا ريب سيكون بعرض حياتنا هذه على الإسلام وضبطها على موازين الشرع.
إن الأسس المشتركة لإجراء الحوار متوفرة لا ريب، وهي الأسس المكونة لحضارتنا العربية الإسلامية، لكن الرغبة الحقيقية في الحوار غير موجودة - فيما نظن.
إن مشكلات التطرف والإرهاب في مصر وفي كل البلاد العربية والإسلامية، يمكن معالجة كثير منها بالحوار الهادئ البناء المبني على الأسس المتفق عليها لثقافتنا، ولكن بين مَنْ ومَنْ يكون الحوار؟.

أليس من الأفضل إذاً أن نعود إلى أصولنا الحضارية نستمد منها مبادئ الخير الذي أكرمنا الله به ؟ ألم يأمرنا ربنا بالتحاور والتعارف ونبذ الخلاف والصراع ؟ ألم تكن تلك هي سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟
                                          د/عبدالوهاب القرش
                                         دكتوراه في العلوم الإسلامية



الجمعة، 2 أغسطس 2013 0 التعليقات

سلسلة (إنها مصر) "3"


أنبياء الله في مصر.. إبراهيم عليه السلام
ولد إبراهيم عليه السلام في بلدة (فدام فرام) في مدينة (أور) بجنوب العراق في بلاد بابل عام (1996 ق م) ويرجع نسبه إلى سام بن نوح عليه السلام([1]) ،وهو بذلك نبي من الأنبياء الساميين، ونسبه القريب يرجع إلى القبائل الآرامية([2])، وفي التوراة يصفه حفيده يعقوب عليهما السلام بأنه:" الآرمي التائه "([3]) وكان إبراهيم عليه السلام يتكلم اللغة الآرامية التي تتكلم بها كل القبائل العراق والشام([4]) فكان إبراهيم عليه السلام آرامي الجنس واللغة.
وكانت القبائل الآرامية من أهل بابل في زمن إبراهيم عليه السلام يتخبطون في ظلمات الشرك والوثنية فعبدوا الأصنام والكواكب من دون الله، وعظموا ملكهم النمرود بن كنعان الذي نصب نفسه إلها وأمرهم بعبادته([5]). وكان آزر والد إبراهيم يعمل نحاتا يصنع التماثيل والأصنام ويبيعها للقوم([6]).


كانت هذه حالة القبائل الآرامية التي شاركت - فيما بعد – في تكوين جحافل الهكسوس (العماليق)([7])..وكان من بين هذه القبائل البدوية الرعوية شاب آرامي راعي غنم اجتباه الله واصطفاه لهداية أولئك الكفرة المشركين المفسدين،وكانت أول خطوة في لإعداد الله سبحانه وتعالى لإبراهيم، هي إلهامه بفكرة التوحيد،فبدأ بالتفكير فيما حوله من ملكوت السماوات والأرض، وبدأ يشتعل في عقله التساؤل: من خلق هذه الحياة؟ تأمل في النجوم والكواكب في السماء، وتذكر أصنام قومه عديدة الأسماء، من يا ترى من بين كل هؤلاء هو الإله؟ وهل هو واحد أم أنهم شركاء؟ وهل وهل وهل؟ آلاف أسئلة تشغي وتزداد اشتعالا ، وتكاد الحيرة تقتله، وأدركته رحمة الرحمن العليم، فأتاه رشده واهتدى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}(الأنبياء:51).
لقد كان وحى الله سبحانه وتعالى لإبراهيم عليه السلام بأن الله واحد أحد فرد صمد بمثابة شعاع النور الذي غمر قلبه وأضاء عقله وسط الظلام الكثيف للكفر والشرك ودنس الوثنية.
بدأت رحلة إبراهيم عليه السلام في إخراج الناس من هذا الفساد العقدي والشرك والوثنية وعبادة الكواكب إلى عبادة الله عز وجل.وكان آنذاك يناهز العشرين من عمره([8]) أو نحو ذلك([9]).
وكان أبيه آزر هو الهدف الأول لإبراهيم عليه السلام في الدعوة إلى عبادة الله، لأن أبيه هو أحق الناس بإخلاص النصيحة له، وفي هذا يقول تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً* إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً؟!..إلخ.. يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً}(مريم:41-44 ).كما نهاه عن عبادة الأصنام{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}(الأنعام:74).
ثم امتد نصح إبراهيم عليه السلام ليشمل أبيه وقومه من البدو الآراميين {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ}(الصافات:85-86).
ثم قال لما يئس من إستجابتهم لدعوته {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ *أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}(الأنبياء:66-67).
وفي نهاية مرحلة دعوة إبراهيم أبيه وقومه في أور لم يؤمن به أحد، وهذا دليل قاطع على تأصل الكفر والوثنية في نفوس أولئك البدو من الآراميين وغيرهم، ولم يكتف هؤلاء الكفرة الغلاظ برفض الدعوة وفقط، بل قرورا قتل إبراهيم عليه السلام حرقا { قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}(الأنبياء:68).لكن نجاه الله منهم ومن كيدهم{قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}(الأنبياء:69-70).


وبعد هذه المحنة والمنحة فر إبراهيم بنفسه وبدينه إلى مدينة حران بأقصى شمال سوريا([10]).وكان أهل حران من البدو الآراميين – أيضا – وكانوا يعبدون الأصنام والكواكب([11]) وتذكر التوراة أن:"إبراهيم قد مكث في حران –وسط الوثنيين المشركين –حتى بلغ عمره (75) سنة "([12]). وخلال هذه الفترة تزوج إبراهيم عليه السلام من السيدة سارة الآرامية، وهي من حران ([13]).
وبالرغم من هذه المدة الطويلة التي قضاها إبراهيم عليه السلام في حران – حوالي نصف قرن- لم يستجب لدعوته إلا اثنين فقط زوجته سارة، وابن أخيه لوط ([14]).وهذا تأكيد على تأصل الكفر والشرك في نفوس البدو الآراميين وغيرهم في حران أيضا.


انتقل إبراهيم عليه السلام من حران إلى فلسطين ولم يمكث بها إلا فترة قصيرة جدا([15])، فانتقل إبراهيم إلى مصر- وكانت بصحبته زوجته سارة -، وكان المسيطر على أمور مصر آنذاك أول ملوك العماليق الهكسوس([16]) ويدعى سنان([17]).
ومن الطبيعي أن يكون إبراهيم الآرامي الجنس واللغة مبعوثا إلى أولئك الهكسوس الذين كانونا من القبائل الآرامية، وغيرها مما يقاربها في الجنس واللغة، والقرآن الكريم يؤكد أن الله سبحانه وتعالى إذا شاء أن يبعث رسولا إلى قوم لابد أن يكون منهم من نفس جنسهم، يقول تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً}(النحل:36) ويتحدث بنفس لغتهم:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}(إبراهيم:4).إذن لا شك أن إبراهيم عليه السلام كان مبعوثا إلى أولئك البدو الهكسوس، لإخراجهم من ظلمات شركهم ووثنيتهم إلى عبادة الله، وقد توجه بدعوته إلى ملك الهكسوس عندما التقى به ([18])،على أن دعوة إبراهيم كانت موجهة - ومركزة على وجه الخصوص – إلى أولئك الهكسوس المقيمين خارج مصر،إذ أن إقامته بمصر لم تستمر إلا سنوات قلائل([19]).
كما أن دعوة إبراهيم عليه السلام لم تكن موجهة –أيضا – إلى المصريين القدماء، وهذا أمر منطقي فيكفي عائق اللغة وحده ليؤكد ذلك، فيقول تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}.
وهذا الأمر له دلالة هامة، فلو كان القدماء المصريين آنذاك مشركين وثنيين، لبعث الله الرسل إليهم لهدايتهم، كما بعث إبراهيم عليه السلام إلى أولئك البدو المشركيين الوثنيين لهدايتهم إلى التوحيد..لكن ذلك لم يحدث لسبب بسيط، هو أن المصريين القدماء كانوا في عهد إبراهيم ومن قبل من الموحدين بالفعل، ومن المؤمنين حق الإيمان، وكانت كلمة الله عندهم هي القوة التي تفعل ما تريد.
وينقل العقاد عن المؤرخ اليهودي يوسفيوس أن إبراهيم عندما جاء إلى مصر، كان من أهم أهدافه الالتقاء بكهنة المعابد المصرية، لسماع ما يقولونه عن الإله الواحد..وكان في نفس إبراهيم، إذا علم من كلامهم خير مما عنده أن يتقبله([20]).


عاد إبراهيم عليه السلام إلى فلسطين، حيث استقر هناك إلى آخر أيام حياته. أقام إبراهيم عليه السلام في فلسطين جيث تموج بالقبائل الآرامية التي من نفس جنس ولغة قبائل الهكسوس في مصر، ووسط هذه القبائل أخذ يدعو إلى عبادة الله ونبذ عبادة النجوم والكواكب والأوثان، وبدأ بعشيرته الأقربين من الآراميين، فمنهم من آمن واستجاب وسار من أتباعه، ومنهم من أعرض وعصى{..وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ*رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }(إبراهيم:35-36).



([1]) ابن كثير:قصص الأنبياء، ص79.
([2]) يؤكد المؤرخون أن القبائل الآرامية ترجع إلى الأصل العربي فهي والعرب البائدة أو العرب العاربة من أصل واحد،ووكان موطنهم الأصلي بادية الشام والهلال الخصيب أي (سوريا ولبنا وفلسطين،وشرق الأردن والعراق) وهناك إشارة إلى مدينة تدعى آرامي وإلى أشخاص يحملون اسم آرامو في المخطوطات الأكادية،ومخطوطات سلالة أور الثالثة، وفي مدونات المملكة البابلية القديمة.انظر:أحمد سوسة: تاريخ وادي الرافدين،2/335.جورج رو:العراق القديم،368؛
([3]) نقلا عن أحمد سوسة:ملامح من التاريخ القديم ليهود العراق، ص16.
([4]) غضبان الرومي:الصابئة ،ص 107.
([5]) جورج رو:العراق القديم،ص362.
([6]) عفيف طبارة: مع الأنبياء، ص 107.
([7]) عماليق:لفظ مركب من مقطعين:الأول:عمو: أي البدو وهو الأسم الذي أطلقه المصريون القدماء على البدو القاطنين بالشام وبلاد الرافدين (العراق)؛الثاني:ليق:مصطلح آرامي يرتبط بالجنود، وفي حضارات العراق القديم كان يتم تجنيد البدو للعمل كفرق من الجنود المرتزقة في خدمة الدولة،أي أن مصطلح (العماليق)يشير باختصار إلى (الجنود البدو).للمزيد انظر: لويس عوض:مقدمة في فقه اللغة العربية،ص271؛بدوي و هيرمان كيس:قاموس،ص33؛جارندر:مصر الفراعنة،ص163؛نعمات فؤاد:شخصية مصر،2/293،طه باقر:مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة،1/407،411؛سامي سعيد:العراق القديم،1/289.
([8]) غضبان الرومي:الصابئة، ص78.
([9]) الثعلبي:العرائس، ص46.
([10]) الطبري:تاريخ الرسل والملوك،1/244.
([11]) ابن كثير:قصص الأنبياء،1/176.
([12]) التوراة:سفر التكوين:12: 4.
([13]) الطبري:تاريخ الرسل والملوك،1/244.
([14]) ابن كثير:قصص الأنبياء،1/177،201.
([15]) عبد الوهاب النجار:قصص الأنبياء،ص84.
([16]) الهكسوس:تعني حكام البدو أو الملوك الرعاة، وكانوا خليطا متحالفا من قبائل مختلفة الجنسيات أحداها القبائل الآرامية،أنظر:عزة دروزة:تاريخ الجنس العربي2/119؛موسوعة وصف مصر2/331؛لويس عوض:مقدمة في فقه اللغة العربية/ص272؛جرجي زيدان:تاريخ الجنس العربي،4/272؛عبد الفتاح الزهيري:الموجز في تاريخ الصابئة،ص38.
([17]) الطبري:تاريخ الرسل والملوك،1/194؛ابن الظهيرة:الفضائل الباهرة،15؛ محمود بن الشريف:الأديان في القرآن، ص109.
([18]) ابن إياس:بدائع الزهور،1/79-80.
([19]) الطبري:تاريخ الرسل والملوك،1/247-248؛ابن كثير:قصص الأنبياء/1/204.
([20]) العقاد:إبراهيم أبو الأنبياء،ص 97.
 
;