المادة (219) إسفين فتنة وتأجيج للصراعات واستقواء بالخارج
تعني المادة (219) العمل بمبادئ الشريعة الإسلامية وتشمل
أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة
والجماعة. وتعتبر هذه المادة هي المادة المفسرة للمادة الثانية من الدستور والتي
تنص:"الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة
الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع".
إن المادة (219)
بهذا المعنى تعني العمل بالنصوص التشريعية للمذهب السني بأدلته الكلية التي تستنبط
من النصوص أو تحمل عليها بالقياس والإجماع، أو بالاعتماد على مختلف الأمارات والقواعد
الفقهية، وضروب السياقات اللفظية ومفاهيم الموافقة والمخالفة وغيرها. وهي بذلك تعمل – إن صحت النوايا - وفق الفقه الإسلامي بما
يحتويه من ثروة تشريعية ندر مثلها، وتنظم في إطار الأحكام الخمسة:(إيجابا،
وتحريما، وكراهة، وندبا، وإباحة) مساحات شاسعة من العبادات والمعاملات والعلاقات
والسلوكيات الفردية والجماعية، وقوانين التجارة والاقتصاد، والقضاء والحروب، وهو
ما يجعل الفقه الإسلامي أكثر قابلية للحياة المتجددة عبر الحقب، إذا تتبعته
بالتطوير والتشذيب والتهذيب عقول نيرة وأفئدة صادقة مخلصة.
إلا أن المادة (219) تعتورها شوائب متعلقة بالخلاف
بين مذاهب أهل السنة أولا، والاختلاف داخل المذهب السني الواحد ثانيا، مما يجعل
العمل ببعض بنودها في شكلها الحالي محل نظر إذا ما أريد تطبيقها في جمهورية مصر
العربية.
هذه المعضلة تنتصب عائقا في أغلب حالات التشريع
النصي، تنتصب في مجال الاجتهاد وميدان القضاء وساحة الفتوى، وفضاءات تدبير الشأن
العام، كما يذر قرنها عند التقعيد للأصول والفروع ومناهج الاستنباط، وأحكام
العبادات والمعاملات.
هذه الإشكالية هي التي حملت السلاطين المماليك حكام مصر
والشام - على سبيل المثال - على اتخاذ قاض لكل مذهب في كل ولاية، ومنبر للصلاة خاص
بكل طائفة، فكان الحرم المكي حينئذ تعاد فيه الصلاة الواحدة بعدد المذاهب الوافدة
إليه، مالكية وحنفية وشافعية وحنبلية وإمامية وإباضية..
نفس الإشكال يبرز بحدة في مجال التشريع لدى مصر
باعتبارها دولة إسلامية سنية المذهب والمعروف أنه ينقسم بدوره إلى أربعة أقسام
حنفي وشافعي ومالكي وحنبلي ، إذ يتعذر الاتفاق على حكم واحد لكثير من القضايا
الخلافية التي يراد التشريع لها، لأن مصادر الخلاف والاختلاف تتجلى في كافة مفاصل
تشريع أهل هذه المذاهب السنية الأربعة.
تتجلى أولا في مناهج التعامل مع القرآن الكريم
وتفسيره،لا سيما وقد اتخذ كل مذهب من فهمه للقرآن أداة لنقض اجتهادات غيره، ملتمسا
الحجة التي تؤيد رأيه وتعزز اجتهاده، فاتسعت شقة التنافي بين التشريعات، ونشأ بين
المدارس التشريعية الإسلامية ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح " التهادم التشريعي
"؛ وصار لكل مذهب تفسيره التشريعي الخاص به لا يرجع معه إلى غيره:فالحنفية من
تفاسيرها التشريعية " أحكام القرآن " لأبي بكر أحمد بن على الرازي
الجصاص.والمالكية ترجع ل" أحكام القرآن " لأبي بكر محمد بن عبد الله بن
العربي المعافري الإشبيلي.والحنابلة ترجع ل" الإكليل في المتشابه
والتنزيل" لأحمد بن تيمية.والشافعية ترجع ل" أحكام القرآن " لأبي
الحسن الطبري (الكيا الهراسي) .
أما مجال الحديث النبوي فالاختلاف فيه أكثر من أن يحصر،
وعلى رغم أن جهابذة من العلماء قد حرروا غوامضه ودقائقه، وأفذاذا من المحدثين في
كل عصر قد بذلوا من الجهود المضنية ما قربه للإفهام وميز أسانيده صحيحها من
عليلها، وقويها من سقيمها، فإن الخلاف فيه ما زالت شقته متسعة، والأحكام التشريعية
المستندة إلى كثير من نصوصه لدى المذاهب مختلفة متهادمة تأصيلا وتفريعا.
أنا لا أزعم لنفسي حق نقض هذه الاجتهادات المتعارضة،
ولا القدرة والجرأة على ذلك، فكل مجتهد إن صدقت نيته له أجره مصيبا أو مخطئا، كما
ورد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، لكن الهدف من الإشارة إلى هذه الحالة التشريعية
هو التنبيه إلى تأثيرها في نظام جمهورية مصر العربية باعتبارها دولة إسلامية
جامعة.
كذلك زاد اختلاف طرق الاستنباط من نصوص الكتاب
والسنة، أمر التشريع النصي إشكالا وتعقيدا. فقد كان الإمام مالك يسير على نهج خاص
به في الأخذ من الكتاب والسنة بالاستناد إلى عمل أهل المدينة والإجماع، وعلى ما
اشترطه في رواية الحديث من ضرورة أن يصحبه عمل، وألا يخالف عمل أهل المدينة، وعلى
قبوله المرسل ، مرسل التابعي وتابعي التابعي بإطلاق.
أما الإمام أبو حنيفة فمنهجه الكتاب والسنة وما أجمع
عليه الصحابة، فإن لم يجمعوا تخير من آرائهم لا يخرج عنها، ولا يأخذ برأي التابعي
وتابعي التابعي لأنه يراهم رجالا مثله، كما كان له أسلوبه في الأخذ بالقياس
والاستحسان واعتبار العام قطعيا لا يخصصه إلا قطعي أو خبر مشهور، فإن خصص بأحدهما
صار ظنيا، أما أحاديث الآحاد فكان يشترط فيها إلى جانب الثقة بالراوي وعدالته ألا
يخالف عمله روايته، كشأن رده رواية أبي هريرة في الكلب إذا ولغ في إناء أحد أن
يغسله سبعا إحداهن بالتراب، لأن الراوي أبا هريرة كان لا يعمل به، أما المرسل
فمقبول عنده سواء كان مرسلا للتابعي أو تابعي التابعي.
أما الإمام الشافعي الذي هو أول من صنف قواعد
الاستنباط ورتبها ورسم معالمها، فقد كان يرد الاستحسان ولا يأخذ بالمصالح المرسلة،
ويعد العمل بهما تشريعا بغير ما أنزل الله، ولا يأخذ من أخبار الآحاد إلا ما
استوفى شروط الرواية الصحيحة، ويشترط في المرسل أن يكون تابعيه قد لقي كثيرا من
الصحابة كسعيد بن المسيب في المدينة والحسن البصري في العراق، ولا يأخذ مرسل تابعي
التابعي.
أما المذهب الحنبلي فيتميز بالتشدد والحرفية في تناول
الكتاب والسنة والإجماع، والفرار من الرأي والحيل الشرعية والاستحسان، واجتناب
القياس إلا عند الضرورة القصوى، وتفضيل أخبار الآحاد ولو ضعيفة على القياس.
فإذا أضفنا إلى هذه المعضلة، معضلة أخرى هي اختلاف
الأحكام التشريعية داخل المذهب الواحد ما بين أقوال مؤسسه وأقوال فقهائه ومجتهديه،
ازدادت شقة الابتعاد عن الوحدة التشريعية اتساعا. ولئن سعى كل مذهب إلى محاولة وضع
مقاييس للترجيح بين الآراء داخله، فإن الإجماع على رأي واحد بقي متعذرا لا يحسم
أمر الوحدة التشريعية مطلقا، ولو على صعيد المذهب الواحد.
إن هذا الارتباك التشريعي سوف تواجهه جمهورية مصر
العربية إذا ما طبقت المادة (219) وتظهر آثاره الخطيرة جلية في كثير من الأحكام
الشرعية التي يمكن أن تصوغها وتلزم بها، لاسيما المتعلقة منها بالدماء والأموال
والحقوق.
فالرجل إذا قتل لقيطا يستوفي الإمام من قاتله القصاص
عند أبي حنيفة، ولا يستوفى منه عند الشافعي.
والمرأة إذا زنت بصبي أو مجنون لا حد عليها عند أبي
حنيفة ويقام عليها الحد عند غيره.
وفي حال غيبة الزوج عن زوجته يؤقت مالك للغائب بأربع
سنوات ، ثم تطلق عليه الزوجة. أما أبو حنيفة فلا يفرق بين الزوج وزوجته
بالغيبة، لقوله صلى الله عليه وسلم في أرملة المفقود:" إنها امرأته حتى
يأتيها البيان " ولقول علي رضي الله عنه:" هي امرأة ابتليت فلتصبر حتى
يستبين موت أو طلاق "، ولأن القضاء على الغائب وللغائب لا يجوز.
وشهادة الأطفال تقبل في الجراح والقتل ولا تقبل في
الأموال لدى البعض، ولا تقبل عند غيرهم في الجميع ، والمالكية في ذلك على
ثلاثة أقوال: الجواز لمالك، والمنع لابن عبد الحكم ، والجواز في الجراح دون القتل
لأشهب ، وعند ابن أبي ليلى تجوز في الجراحات وتمزيق الثياب التي تكون بين
الأطفال في الملاعب ما لم يتفرقوا . والمنع الأصل . وإليه ذهب الشافعي
وأبو حنيفة . والجواز لعله للاضطرار، إذ لو لم تقبل شهاداتهم لأدّى ذلك إلى
هدر جنايات كثيرة، والقول بالجواز مقيد بأحد عشر شرطاً مفصلة في كتب فقه
المالكية . وعن أحمد رواية أنها لا تقبل ، ورواية أنها تقبل في الجراح
إِذا كان الأطفال اجتمعوا لأمر مباح ، وقبل أن يتفرقوا . ورواية ثالثة
أنها تقبل في كل شيء.وغير ذلك الكثير الذي لا يمكن حصره.
إن الاختلاف في استنباط الأحكام لم يكن في بداية
ظهوره سببا في النزاع أو الفرقة والانقسام، بل كان عبادة ووسيلة إلى البحث عن
الحق، ثم صار مرآة تنعكس عليها مبادئ الإسلام التي تكرس السماحة والمرونة وقواعد
الحرية الفكرية والحوار المنتج، إلا أنه مع ما آل إليه أمر المجتمع الإسلامي من
تخلف، أضحى إسفينا لشق الوحدة وبث الفرقة والتنازع، وبدأت آثاره السلبية تهيمن على
الحياة الفكرية والتشريعية، وتعوق عملية توحيد الأمة على منهج رشيد واحد وقيام
دولتها الجامعة.
إن تطبيق هذه المادة في مصر يؤدي إلي تعديل قوانين ولوائح
(الأحوال الشخصية) لأن معظمها من الراجح في المذهب الحنفي، وبعضها مأخوذ من الفقه الشيعي
الجعفري كالإشهار علي الطلاق في المحررات الرسمية. وسوف يؤدي ذلك بالتبعية إلى ارتباك
اجتماعي واقتصادي وسياسي ما يتعذر حصره وإحصاؤه وتلافيه.
كما أن العمل بالمادة (219) سيوضح الفروق بين المذاهب
السنية الأربعة مما يؤدي بمرور الوقت إلى التمزق المذهبي وما ينشأ عنه من طائفية،
يفرز في كل زمان ومكان عوامل مزمنة للتفتيت والتقسيم والتناحر على جميع الأصعدة، فقد
يصبح كل مذهب دينا مستقلا عن بقية المذاهب الأخرى ومن ثم يتحول أتباع كل مذهب إلى طائفة
وكيان منعزل عن المجتمع، رافض له، مخرب لجميع وشائجه وعلاقاته الإنسانية.ناهيك عن
ما يترب على ذلك من تناحر سياسي بين النخب والزعامات المذهبية التي تستثمر المشاعر
السلبية والتنافي الفقهي لتكريس مواقعها وسلطتها، وتوظيف ذلك للأهداف الشخصية،
ولتخريب الوحدة الوطنية تحت غطاء الدفاع عن المذهب وطائفته. بالإضافة استثارة
صراعات جانبية أخرى، قومية وعرقية وطبقية كانت نائمة، تستيقظ فتتحول بها مصر إلى
شظايا، والمذاهب نفسها إلى عرقيات، كالنوبيين في جنوب مصر، والبيجاويين في حلايب
وشلاتين جنوب شرق مصر،وأولاد علي في شمال غرب مصر.
أما على صعيد الولاء لمصر، فتنشأ عن تطبيق المادة
(219) إحدى حالتين: أولاهما لجوء بعض المذاهب ردا على ما ينالها من ظلم وتهميش
وإقصاء إلى الاستقواء على مصر بالقوى الأجنبية . وثاني الحالتين: أن تحاول الأكثرية
المذهبية الحاكمة تصفية الأقليات المذهبية أو قمعها وترويضها، فتتهمها بالخيانة
وترميها بالتآمر وممالأة الأجنبي، وضعف الولاء للوطن والدين، وهذا ما له شواهد من
التاريخ الماضي والواقع الحالي.
ولعل من المؤسف حقا أن نعترف بأنه لم يكن لدى
المسلمين منذ نهاية عهد الخلفاء الراشدين إلا نموذج واحد لحل هذه المعضلة، نموذج
الدولة المتعسفة التي تفرض مذهبها على المذاهب الأخرى بواسطة النطع والسيف، ولا
تترك لها إلا الخضوع المذل أو الثورة الدموية. وذاك ما عرفته الدولة العباسية في
بغداد، والصفوية الشيعية في إيران، والعثمانية الحنفية في تركيا والفاطمية الشيعية
في مصر.
ولعل من نافلة القول أن نذكر بأن المسيحيين والأقلية
اليهودية والأقلية الشيعية في جمهورية مصر العربية حاليا – إذا هضم حقهم - هي
السلاح التدميري الأشد خطورة، الذي تمسك به قوى العدوان الأجنبي، وتستخدمه جحافل
الغزو الاستعماري لأوطان المسلمين عربا وعجما.
ليس لنا مفر من الاعتراف بشذوذ مناهجنا السياسية منذ نهاية
عهد الخلفاء الراشدين، عن قواعد الإسلام، ومبادئ الإنسانية الرشيدة، وقيم العدالة
والحرية والمساواة، وهذا يجعلنا بين خيارين لا ثالث لهما، خيار مواصلة "
السقوط الحر" – إذ ما طبقت المادة(219) - في هاوية من الفتن والصراعات لا
قرار لها، أو خيار التنحي عنها مؤقتا حتى نستطيع النهوض لمدارسة الكتاب والسنة من
جديد وصياغة منهج سياسي لتدبير الشأن العام، يباركه الله عز وجل ويرضى به وعنه شعب
مصر وسكان الأرض أجمعين.
د/عبدالوهاب القرش
دكتوراه في العلوم الإسلامية
0 التعليقات:
إرسال تعليق