الأربعاء، 23 فبراير 2011

ربحوا محمدا ولم يخسروا المسيح (3)





الدكتور نظمي لوقا
ولد الدكتور الفليسوف نظمي لوقا جرجس في مدينة دمنهور (عاصمة محافظة البحيرة) عام ( 1339 /1920م)، وتوفي في القاهرة وقضى حياته في مصر. حصل على شهادة إتمام المرحلة الابتدائية في مسقط رأسه، ثم على شهادة إتمام الدراسة الثانوية من الإسكندرية، ثم التحق بجامعة القاهرة، وحصل على ليسانس الآداب، قسم الفلسفة (1940)، كما حصل على ليسانس مدرسة الحقوق الفرنسية بالقاهرة، ثم واصل دراسته العليا، وحصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة. عمل مدرسًا بالمدارس الثانوية في مدينتي السويس والإسكندرية، وأستاذًا للفلسفة بكلية المعلمين بالقاهرة، ثم بكلية الآداب، جامعة عين شمس. كان عضوًا بنادي القلم الدولي، وعضوًا باتحاد كتاب مصر، وعضوًا باتحاد الكتاب العرب. أثارت كتاباته عن الإسلام ونبيّه انتباه الناس جميعًا
ظلم هذا الرجل حيا وميتا ، فلو سألنا أي قارئ مطلع على المقالات الأدبية في الصحف عن هذا الفيلسفوف المصري الذي كان يذيل "توقيعه" بعبارة : (من رقيق الأرض المتمردين علي الأغلال) لما أسعدتك الإجابة، فالجهل بهذا المفكر يكاد يكون حالة عامة! والأعجب من ذلك أنه صاحب مذهب فلسفي يعرف بالفلسفة التعبيرية، وكان ـ في زمانه ـ من صفوة تلاميذ عباس العقاد ووضع نحو عشرين كتابا في الفلسفة والفكر، وكان يوصف بأديب الفلاسفة لأنه كان ذواقا للأدب العربي الرفيع.
له عدد من الأعمال القصصية، منها: «الابنة الحائرة » و«عذراء كفر الشيخ» وله عدد من المؤلفات، منها: «محمد: الرسالة والرسول» ، و«محمد في حياته الخاصة» ، و«عمرو بن العاص»، و«أبوبكر حواري محمد» ، و«الله»: وجوده ووحدانيته بين الفلسفة والدين ، و«أنا والإسلام»، و«وا محمداه»،«الله: الإنسان والقيمة»، كما وله عدد كبير من المترجمات، منها: «الأفق الضائع»: جيمس هيلتون ، و«ثلاثية نجيب محفوظ»: الأب جاك جومييه ، و«أهداف التربية»: الفريد نورث هويتهيد ، و«رحلة في دنيا المستقبل»: أندريه موروا ، و«آلام فرتر: جوته» ، و«الوصول إلى السعادة»: برتراند رسل ، و«سيمفونية الرعاة»: أندريه جيد ، و«الليالي البيضاء»: ديستوفسكي ، و«تفسير الأحلام»: سيجموند فرويد ، و«رقصة الحياة» - البعد الآخر للزمن: إدوارد د.ت. هول ، وله عدد من المقالات نشرت في صحف عصره.
تمثل قصائده محاولة مبكرة لتجاوز القصيدة العربية التقليدية غرضًا وشكلاً، حيث جاءت القصائد مطولات لا تحافظ على القافية الموحدة، اتبع فيها نهج قصيدة التفعيلة فكانت أقرب إلى روح النثر منها إلى الشعر، تنضح فلسفةً، وتعكس صدى تأملات الفيلسوف وتطلعات المثقف وخبراته، مثيرة أسئلة حول الوجود الإنساني وقلق المصير، وتعتمد أسلوبًا قصصيًا في سرد الأحداث ودراميًا في تناميها عبر الزمن. في ملحمته «أشباح المقبرة» اهتمام بالصور الشعرية التي تأخذ منحى رمزيًا، فتعبر عن «حالات» أكثر مما تصور مناظر ومحسوسات، وتشق طريقها إلى تجسيد تجربة روحية وإن أبرزت ورسمت حركات عضوية.
وأحدثت آراء الدكتور نظمي لوقا جدلا واسعا في حينه خصوصا عندما أصدر كتابه "محمد الرسالة والرسول" ثم توالت مؤلفاته تباعا ومنها: كتاب علي مائدة المسيح، والتقاء المسيحية والإسلام، والله والإنسان والقيمة، والحقيقة عند فلاسفة المسلمين. والثابت عملا أن الدكتور نظمي لوقا قد وضع نصب عينيه رسالة لم يحد عنها قط طوال حياته وهي محاربة الجهل والتعصب، ليس فقط لأنه عاني ـ علي المستوي الشخصي ـ من هاتين الآفتين، الي حد أنه دخل في دوائر من الاحباط لا تنتهي، ولكن أيضا لقناعته الكاملة بأن خطر "التعصب" داهم علي مصر وأهلها، وهو أشبه بالنار التي ستأكل الناس والحجارة! لذلك كان يردد دائما علي مسامع المحيطين به أنه نذر نفسه لمحاربة ما كان يسميه بـ"التفكير الذاتي" الذي لا يثمر غير التعصب الأعمي. وكانت البداية إعلانه أن مهمته هي التبصير ومحو "الأمية الفكرية" فيما يخص الإسلام ومحمد ـ صلي الله عليه وسلم، لأنه كان يستشعر أن موجات الجهل المتلاطمة كانت تطمر العقول وتحجب عنها "جوهر" الأشياء.
وكان رائعا الدكتور نظمي لوقا عندما قال - مذكرا الآخرين ممن في قلوبهم زيغ -:" إنني شديد الإيمان بروح ديانتي المسيحية ومبادئها ومثالياتها، والمحبة التي تعم العدو والصديق هي لباب هذه الديانة، وبدونها تنحط الديانة الي شعائر جوفاء، ويضيف في مقدمة واحد من مؤلفاته قائلا: "لئن وجبت علي إذن محاربة التعصب الذميم ومصدره ـ وهو التفكير الذاتي ـ فالمسيح يدعوني صراحة قبل أن أفكر في إخراج القذي من عين سواي، ان أجتهد أولا في اخراج "الخشبة" التي في عيني أنا".
إن فيلسوفنا المصري نظمي لوقا هو صاحب تيار فكري يعلي من شأن الإنسان المصري دون أن يأبه للونه أو جنسه أو دينه، وحري بنا أن نستدعيه الي الذاكرة المصرية في هذه المرحلة التي يحاول البعض تصوير الأوضاع في صعيد مصر ـ بل في مصر كلها ـ وخصوصا بعد أحداث نجع حمادي التي راح ضحايا لها مسيحيون ومسلمون علي السواء، علي أنها حرب ضروس (علي أساس ديني) بين جناحي الأمة. لو قرأنا نظمي لوقا ـ الذي لم أر سببا واحدا لتجاهله طوال هذه السنين ـ لتبين لنا أن الرجل كان مهموما بما نحن فيه اليوم، واضعا يده علي قلبه خوفا من أن تتفشي آفة التعصب لتحصد الأخضر واليابس، وتحول أرض الكنانة الي أرض الحقد والكراهية. فها هو قبل عشرات السنين كان يدعو شعبه ـ شعب مصر ـ الي مكافحة الجهل وتكسير الحاجز النفسي بين الديانتين الإسلامية، والمسيحية مشيرا الي أن كل من يتبصر في لباب أديان التوحيد ـ والمسيحية والإسلام كل منهما دين توحيد ـ سيدرك علي الفور أن الله واحد هو المعبود هنا وهناك، وإن اختلفت شعائر التعبد وأسلوب التوحيد.
ولقد وضع هذا الفيلسوف يده علي البيئة التي يتفشي فيها هذا الداء العضال، أقصد التعصب، وهي البيئة التي يعيش فيها العامة الذين يراهم أشد خلق الله عبودية لما ألفوا. وتلك هي الطامة الكبري، فيذكر أنه قد لفت نظره أن (العامة) علي اختلاف أديانهم ومللهم ونحلهم، في كل مكان من أرجاء الدنيا لا ينبيء عن عاميتهم الفكرية شيء مثل غلبة التعصب الأعمي عليهم. وأن منشأ هذا التعصب هو الجهل بديانات الآخرين دائما، بل جهلهم بدياناتهم أنفسهم ولبابها الخلقي في الوقت نفسه. والحق أنه قد استقر في نفس هذا الفيلسوف أن الاستنارة الفكرية ومعرفة سمات الديانات المخالفة علي حقيقتها لا تضير الإيمان الذاتي، بل تجعله صافيا صفاء النور، لا معتما بدخان الجهل الداكن الذي ينقدح منه الشرر وقد تنشب منه الحرائق!
وبرغم أن مغالطات كثيرة قد عكرت صفو الدكتور نظمي لوقا، فحسبه كل فريق علي هواه، لكنه أعرض عن هذا كله، وتمسك بقناعته التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وهي أن الذي يثبت علي ديانته وهو جاهل بحقيقة ديانة أخري تعشش في نفسه الأساطير والأراجيف عن الديانة المخالفة، فينزلق الي ازدرائها مهما تظاهر بمجاملة معتنقيها، وذلك ـ حسبما يقول ـ ضرب من الظلم لا يليق بمتدين حقيقي غير مكتف بمظهرياته. ثم أنه آفة نفسية وفكرية تحدث آثارها البعيدة في حياته كافة. وبرغم ما لقيه فيلسوف التعبيرية المصرية من عنت شديد في حياته الأكاديمية والحياتية والفكرية، ومن صدود ونكران الي حد أنه اعتقد للحظة أنه إنما يكتب علي الماء! إلا أنه ظل وفيا لبنات أفكاره ومستحضرا ـ طوال الوقت ـ صورة استاذه سقراط الذي كان يعتقد أن (الرذيلة جهل) أي جهل بحقيقة الفضيلة. وأنه يكفي القضاء علي الجهل بالفضيلة كي تتلاشي الرذيلة. وأحسب أن الدكتور نظمي لوقا، كان يعلم يقينا أن حاله أشبه بالقابض علي الجمر، وبرغم ذلك لم يضعف أو يلين في مواجهة الجامدين والمتعصبين الذين ملأوا الدنيا ضجيجا (في زمانه)، ولايزال أحفادهم يفعلون نفس الصنيع (في زماننا).
ومن أقواله التي يجب أن نكتبها بحروف من نور تكفيرا عن ذنبنا أننا نسيناه، بلا مبرر! ـ وتأكيدا لكونها الترياق الذي يمكنه أن يحمي الأمة ويصون وحدتها:
ـ لئن كنت أنصفت الإسلام ـ في كتاباتي ـ فليس ذلك من منطلق التخلي عن مسيحيتي بل من منطلق الاخلاص لها والتمسك بجوهرها وأخلاقياتها.
ـ يتعين أن أواصل كفاحي لمحو الأمية الفكرية وإلا كنت مقصرا في حق ضميري، وديني وموضوعيتي الفكرية وانتمائي الوطني والقومي والإنساني.
لقد كان الدكتور نظمي لوقا عالما مستقلا بعلمه وتفكيره فكونه نصراني فهذا لم يمنعه من حفظ القرآن الكريم كاملا قبل بلوغه العاشرة وهو لا يقدم في آرائه إالا عقله و علمه فقط ... أنظروا ماذا قال عن النبي محمد صلى الله عليه و سلم:
".. ما كان محمد [صلى الله عليه وسلم] كآحاد الناس في خلاله ومزاياه، وهو الذي اجتمعت له آلاء الرسل [عليهم السلام]، وهمة البطل، فكان حقًّا على المنصف أن يكرم فيه المثل، ويحيّي فيه الرجل.
"لا تأليه ولا شبهة تأليه في معنى النبوة الإسلامية.. وقد درجت شعوب الأرض على تأليه الملوك والأبطال والأجداد، فكان الرسل أيضًا معرضين لمثل ذلك الربط بينهم وبين الألوهية بسبب من الأسباب، فما أقرب الناس لو تركوا لأنفسهم أن يعتقدوا في الرسول أو النبي أنه ليس بشرًا كسائر البشر، وأن له صفة من صفات الألوهية على نحو من الأنحاء. ولذا نجد توكيد هذا التنبيه متواترًا مكررًا في آيات القرآن، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110]، وفي تخير كلمة (مثلكم) معنى مقصود به التسوية المطلقة، والحيلولة دون الارتفاع بفكرة النبوة أو الرسالة فوق مستوى البشرية بحال من الأحوال. بل نجد ما هو أصرح من هذا المعنى فيما جاء بسورة الشورى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ} [الشورى: 48]، وظاهر في هذه الآية تعمد تنبيه الرسول نفسه [صلى الله عليه وسلم] إلى حقيقة مهمته، وحدود رسالته التي كُلِّف بها، وليس له أن يعدوها، كما أنه ليس للناس أن يرفعوه فوقها.
".. رجل فرد هو لسان السماء. فوقه الله لا سواه. ومن تحته سائر عباد الله من المؤمنين. ولكن هذا الرجل يأبى أن يداخله من ذلك كبر. بل يشفق، بل يفرق من ذلك ويحشد نفسه كلها لحرب الزهو في سريرته، قبل أن يحاربه في سرائر تابعيه. ولو أن هذا الرسول [صلى الله عليه وسلم] بما أنعم من الهداية على الناس وما تم له من العزة والأيادي، وما استقام له من السلطان، اعتد بذلك كله واعتزّ، لما كان عليه جناح من أحد؛ لأنه إنما يعتد بقيمة ماثلة، ويعتز بمزية طائلة. يطريه أصحابه بالحق الذي يعلمون عنه، فيقول لهم: لا تطروني كما أطرت ال***** ابن مريم، إنما أنا عبد الله، فقولوا عبد الله ورسوله. ويخرج على جماعة من أصحابه فينهضون تعظيمًا له، فينهاهم عن ذلك قائلاً: لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضًا.
"ماذا بقي من مزعم لزاعم؟ إيمان امتحنه البلاء طويلاً قبل أن يفاء عليه بالنصر وما كان النصر متوقعًا أو شبه متوقع لذلك الداعي إلى الله في عاصمة الأوثان والأزلام.. ونزاهة ترتفع فوق المنافع، وسمو يتعفف عن بهارج الحياة، وسماحة لا يداخلها زهو أو استطالة بسلطان مطاع. لم يفد. ولم يورث إله، ولم يجعل لذريته وعشيرته ميزة من ميزات الدنيا ونعيمها وسلطانها. وحرم على نفسه ما أحلّ لآحاد الناس من أتباعه، وألغى ما كان لقبيلته من تقدم على الناس في الجاهلية حتى جعل العبدان والأحابيش سواسية وملوك قريش. لم يمكن لنفسه ولا لذويه. وكانت لذويه بحكم الجاهلية صدارة غير مدفوعة، فسوّى ذلك كله بالأرض. أي قامة بعد هذا تنهض على قدمين لتطاول هذا المجد الشاهق أو تدافع هذا الصدق الصادق؟ لا خيرة في الأمر، ما نطق هذا الرسول عن الهوى.. وما ضلّ وما غوى.. وما صدق بشر إن لم يكن هذا الرسول بالصادق الأمين.
"أي الناس أولى بنفي الكيد عن سيرته من (أبي القاسم) [صلى الله عليه وسلم] الذي حول الملايين من عبادة الأصنام الموبقة إلى عبادة الله رب العالمين، ومن الضياع والانحلال إلى السموّ والإيمان، ولم يفد من جهاده لشخصه أو آله شيئًا مما يقتتل عليه طلاب الدنيا من زخارف الحطام.
"كان محمد [صلى الله عليه وسلم] يملك حيويته ولا تملكه حيويته. ويستخدم وظائفه ولا تستخدمه وظائفه. فهي قوة له تحسب في مزاياه، وليست ضعفًا يُعَدّ في نقائصه. لم يكن [صلى الله عليه وسلم] معطل النوازع، ولكنها لم تكن نوازع تعصف به؛ لأنه يسخرها في كيانه في المستوى الذي يكرم به الإنسان حين يطلب ما هو جميل وجليل في الصورة الجميلة الجليلة التي لا تهدر من قدره، بل تضاعف من تساميه وعفته وطهره. وبيان ذلك في أمر بنائه بزوجاته التسع [رضي الله عنهن].."
" كان محمد [صلى الله عليه وسلم] يملك حيويته ولا تملكه حيويته. ويستخدم وظائفه ولا تستخدمه وظائفه. فهي قوة له تحسب في مزاياه، وليست ضعفًا يُعَدّ في نقائصه. لم يكن [صلى الله عليه وسلم] معطل النوازع، ولكنها لم تكن نوازع تعصف به؛ لأنه يسخرها في كيانه في المستوى الذي يكرم به الإنسان حين يطلب ما هو جميل وجليل في الصورة الجميلة الجليلة التي لا تهدر من قدره، بل تضاعف من تساميه وعفته وطهره. وبيان ذلك في أمر بنائه بزوجاته التسع رضي الله عنهن"
ولعل تلك الروح التي كتب بها المؤلف متجرداً منصفاً لم تقطع الجدل بل زادته .. فيصدر قرار كنسى بتحريم الصلاة على جثمانه! وكأنه يأبى إلا التمرد حياً وميتاً وهو الذي كان يذيل توقيعه بعبارة "من رقيق الأرض المتمرد على الأغلال"..
فلئن أساء بعض أهل الكتاب - لأنفسهم قبل من سواهم .. فإن منهم من يحسن ..
نعم صدق الله .. ليسوا سواء ..
فاضت روحه إلى أمر ربها في مدينة القاهرة عام (1408 هـ/1987 م)

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
;