الخميس، 26 ديسمبر 2013 0 التعليقات

الوثائق التاريخية تقول: إن أمة " اقرأ" لا تحرق ما تقرأ!!



الوثائق التاريخية تقول: إن أمة " اقرأ" لا تحرق ما تقرأ!!
دأبت المؤسسة الكنسية، في حربها ضد الإسلام، على القيام بعمليات إسقاط لكل ما تعرضت له هي من مثالب، أو لكل ما قامت به من هدم وتدمير لاقتلاع الآخر. ومن أشهر هذه الإسقاطات إلصاق تهمة حرق مكتبة الإسكندرية القديمة، الذي تم في القرن الرابع الميلادي، إلى القائد عمرو بن العاص؛ بناء على أمر من الخليفة عمر، أيام فتح مدينة الإسكندرية، في القرن السابع!
وتقول الوثيقة الوحيدة التي استندوا إليها، وهى بقلم ابن القفطي، في القرن الثالث عشر الميلادي، في كتابه المعنون: «تأريخ الحكماء»: « إن الخليفة عمر قد أصدر أوامره للقائد عمرو بن العاص قائلاً: «فيما يتعلق بالكتب التي ذكرتها، فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنًى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله، فلا حاجة إليها، فتقدم بإعدامها. فشرع عمرو بن العاص في تفريقها على حمامات الإسكندرية وإحراقها في مواقدها كوقود لتسخين المياه. وقد استغرق حرقها ستة أشهر كاملة ».
ولن نتناول الآن التعليق على هذه الفرية الواضحة، ونتركها لآخر هذا المبحث، لنعرض موضوع المكتبة منذ بدايته، وكما تتناوله الوثائق الغربية المنصفة.
لم تكن الإسكندرية آنذاك مجرد مدينة مزدهرة، وإنما كانت بمثابة حضارة مكتملة، بمعنى أنها كانت تضم تلك الإنجازات التي يتركها عظام الرجال في مجتمع تتعدى أبعاده نطاق الجغرافيا. فالنطاق التاريخي الواقع بين الفترة التي تم فيها تأسيس هذه المدينة على أيدي الإسكندر الأكبر، سنة 332 ق.م. إلى الفترة التي تم فيها تدميرها على أيدي الأسقف تيوفيلوس والقساوسة التابعين له ومن بعدهم، في القرن الرابع الميلادي، يعد بمثابة حقبة زمانية متفردة في ازدهار علومها.
فقد كانت مدينة الإسكندرية تمثل عالمًا بأسره، وأسلوب حياة فنية وفكرية وعلمية مترابطة الأركان. ونطالع في موسوعة أونيفرساليس: «أن يكون المرء سكندريًّا لم يكن يعني أنه من مواطني هذه المدينة فحسب، وإنما يعني الانتساب إلى قيم حضارية في عاصمة البطالمة، خلفاء الإسكندر في مصر».. فقد كان لها أهمية كبرى أيام الرومان، وكان لها موقع خاص وآثار تميزها.
بل أضفت عليها شهرتُها العديدَ من المسميات، ومنها: الجميلة، شديدة الجمال، خالدة الذكرى، المَلَكية، الشديدة البريق.. وكانت أكثر الصفات استخدامًا «الكبرى».. وقد ازدهرت بها علوم الرياضيات والفلك والهندسة إلى جانب تألق المدارس الفكرية والفلسفية – وكلها مجالات تواصلت اعتمادًا على ما كانت الحضارة المصرية القديمة قد وصلت إليه.
فمنذ بداية النصف الأول من القرن الثالث قبل الميلاد، أيام بطليموس الأول، امتلأت الإسكندرية بالمباني الرائعة، واكتمل شكلها المعماري الذي حافظت عليه حتى نهاية العصور القديمة، بحدائقها الغناء ومبانيها اليونانية الطابع. وفي حي القصور، الذي كان يفترش ربع المدينة تقريبًا، تم تشييد القصر الملكي على البحر، والمتحف والمكتبة الشهيرة، والسوما – قبر الإسكندر الأكبر، والسيرابيوم، المعبد المقام للإله اليوناني المصري سيرابيس، ومعبد إيزيس، والسوق، والمسرح. بينما الفنار المشيَّد على جزيرة فاروس يكمّل تلك الروائع المعمارية.
وكان بطليموس الأول قد أمر بتشييد «الميوزيوم»، أي قصر ربات الفنون، الإلاهات التسع الشقيقات المُلهمات للغناء والشعر والفنون والعلوم والميثولوجيا الإغريقية، عام 288 ق.م. وكان يضم جامعة، وأكاديمية علمية، والمكتبة الشهيرة التي كانت تحتوي على سبعمائة ألف مخطوطة. وكان قد طلب من كل البلدان الشهيرة أن ترسل له أعمالاً لكافة المؤلفين وأمر بترجمتها إلى اليونانية. كما كان يطلب من البواخر التي تتوقف بميناء الإسكندرية أن تسمح بأن يتم نقل وترجمة ما تحمله من كتب .. فكانت النسخ تُعاد إلى البواخر، ويتم الاحتفاظ بالأصل في مكتبة الإسكندرية.
وأصبح «الميوزيوم» مركزًا علميًّا عالي المستوى، يؤمه كافة العلماء، حيث يجدون كل ما يحتاجون إليه. وكانت عملية ترجمة كل هذه الأعمال إلى اليونانية تمثل
عملاً ضخمًا، استحوذ على كافة مثقفي البلد تقريبًا. فقد كان يتعيّن على هؤلاء الأشخاص إتقان لغتهم الأم، إضافة إلى إتقان اليونانية. وعند امتلاء المكتبة تم تشييد ملحق لها قرب الميناء، وهذا الملحق امتدت إليه النيران عام 47ق.م. عندما قام يوليوس قيصر بحرق إسطول الإسكندرية.
ومن أشهر من قام بإدارة هذه المكتبة، الفلاسفة زينودوت الأفسوسى، وأرستوفان البيزنطي، وأريستارك الثاموتراسى، وأبوللونيوس من رودس. وكان آخر من تولى إدارتها هو العالم ثيون (Théon)، والد عالمة الرياضيات والفليسوفة الشهيرة هيباثيا التي كانت تدير مدرسة الأفلاطونية الجديدة بعد أفلوطين، وقام القساوسة بقتلها..
فقد رجمها القساوسة عام 415 بناء على أمر الأسقف سيريل، الذي جعلته الكنيسة قديسًا سنة 1882، وماتت بأبشع طريقة انتقامًا منها ومن علمها. ويقول سقراط القسطنطينى (380 – 450) المؤرخ المسيحي، الروماني الجنسية، والمتخصص في التاريخ الكنسي: «إن القساوسة انتهزوا فرصة مرورها بعربتها وجرّوها عنوة وسحلوها، ثم أدخلوها الكنيسة ونزعوا عنها ثيابها وضربوها بالهروات والأواني، ثم مزقوا جسدها، ووضعوا تلك الأجزاء في كيس وصعدوا بها إلى «السينارون» وأحرقوها. مما أثار الإنتقادات ضد الأسقف سيريل وكنيسة الإسكندرية، إذ كان الموقف في غاية الإحراج لمن يقولون: إنهم أتباع يسوع ويقومون بتلك المجازر والاغتيالات.
وقد حدث ذلك في العام الرابع من ولاية سيريل، والعام العاشر من حكم هونوريوس، والعام السادس من حكم تيودوز، في شهر مارس أيام الصيام. (وارد في كتاب «التاريخ الكنسي»، ج7، ص 14، ترجمة رومان تلميذ هيبوخانى)..
ويا له من احترام لشعائر الدين الذي يفرضونه بالقتل والحرق!
وكانت المعارك بين المسيحيين والوثنيين قد بدأت حتى من قبل أن يسمح لهم الإمبراطور قسطنطين، عام 313، بممارسة مسيحيتهم مثل باقي العبادات في الدولة. وفي مطلع القرن الثالث كفّ تعليم اللغة الهيروغليفية في مصر، واختفى علم التحنيط. ويبدو بكل أسف، كما نطالع في موسوعة فيكيبديا، «أن دخول المسيحية مدينة الإسكندرية قد محى ذاكرة مصر تمامًا» !..
ومع فرض المسيحية ديانة رسمية ووحيدة للإمبراطورية الرومانية في عام 391 ميلادية، زادت المعارك بين الأسقف أريوس والأسقف أطنازيوس، القريب من السلطة، حول طبيعة السيد المسيح. ووصل اضطهاد الوثنيين إلى درجة غير مسبوقة. فقد تم هدم كافة المعابد والتماثيل في كل الإمبراطورية، ومُنعت الطقوس الدينية الوثنية كلها بينما تزايد النفوذ المسيحى بصورة كاسحة.
ويقول هنري مونييه في كتابه عن مصر البطلمية: أيام قسطنطين، الذي حكم من 323 إلى 337، كان معبد السيرابيوم في الإسكندرية في أوج تألقه كما كان يُعد قلعة العالم الهلليني. وقد قرر قسطنطين وقف الاحتفالات الوثنية التي كانت تقام فيه؛ بسبب عداء الكهنة الشديد للمسيحيين. بل لقد أغلق المعبد في يوليو 325م، وهو نفس العام الذي تم فيه تأليه السيد المسيح. وبذلك بدأ أول هجوم على السيرابيوم، ذلك الهجوم الذي واصله تيوفيلوس أسقف الإسكندرية بشراسة حتى أتى عليه.
فقد جعل ذلك الأسقف مهمته الأساسية هي اقتلاع الوثنية من مصر، خاصة وأن الوثنيين كانوا لا يزالون أقوياء في تلك الفترة ويهزءون من خصومهم. وكان السيرابيوم هو مكان تجمعهم مثلما كان محراب عبادة سيرابيس منذ أيام البطالمة الأوائل. وتحول المعبد بعد ذلك ليصبح مدرسة شهيرة تتواصل فيها تعاليم الأفلاطونية الحديثة بفضل هيباثيا التي طالعنا مصيرها..
وما أن وصل قرار الإمبراطور بإلغاء العبادة الوثنية حتى تزعم الأسقف تيوفيلوس القيام بإجراءات استفزازية ضد الوثنيين، اندلعت على إثرها مظاهرة عارمة. « فما كان منه إلا أن تزعم بنفسه عصابة من الرهبان المسيحيين - على حد وصف هنرى مونييه - واستولى على حصن الإسكندرية العلمي، وقام بنفسه بتحطيم تمثال الإله سيرابيس، تحفة الفنان المبدع برياكسيس، وجعل أتباعه يسيرون في المدينة بأجزائه المحطمة. وعانت باقي المعابد من نفس المصير»..
« ولم يكن هدم السيرابيوم إلا حلقة في سلسلة طويلة من الدمار الذي تمخضت عنه المسيحية في صراعها الشرس ضد الوثنية »، ويواصل مونييه قائلاً: « إن هذا الحدث كان له أصداء واسعة؛ بسبب تزعُّم الأسقف تيوفيلوس له، ويقول العديد من المؤرخين: إنه افتعل هذه المظاهرة بالتواطؤ مع إيفاجريوس، حاكم الإسكندرية الروماني، استنادًا إلى قرار الإمبراطور تيودوز » (صفحة 37 ).
أما باقي المعابد التي لم يتم هدمها فقد تم تحويلها إلى كنائس.
ومن الغريب أن هذا الأسقف، تيوفيلوس السكندري، المتوفى عام 412، وكان من المدافعين بشدة عن تأليه يسوع، والذي يحاول البعض تبرأته بإلصاق وحشية أفعاله التدميرية بالمسلمين، هناك مخطوطة من القرن الخامس تصوِّره وهو يقف أعلى معبد السيرابيوم ومكتبة الإسكندرية التي أحرقها! والصورة تمثله وهو ممسك بنسخة من الكتاب المقدس، ويقف منتصرًا على ما دمره، ويُرى الإله سيرابيس داخل المعبد. ويوجد هذا الرسم على هامش حولية مسيحية كُتبت في الإسكندرية في القرن الخامس الميلادي. أي أنه حتى ذلك الوقت كان معروفًا وسائدًا أن الأسقف تيوفيلوس هو الذي دمر السيرابيوم ومكتبة الإسكندرية .. ورغمها يواصل المحرِّفون فرياتهم!
والنبذة القصيرة التي نطالعها في المجلد الرابع لفهرس موسوعة أونيفرساليس الفرنسية (1996) عن تيوفيلوس السكندرى تقول: « تيوفيلوس، أسقف الإسكندرية من 384 إلى 412. وقد قام بدور من الدرجة الأولى في السياسة المدنية والكنسية في عصره. فقد توصل، بالاتفاق مع الإمبراطور، وبالقيام بالعديد من المعارك الدامية، إلى اقتلاع الوثنية من مصر، وذلك بهدم المعابد الوثنية ( ومنها السيرابيوم، عام 391) وبإقامة المبانى المسيحية بدلاً عنها.
إن الدور الذي لعبه في المعركة المتعلقة بأوريجين، وموقفه من يوحنا كريزوستوم (أي الفم الذهبي، لفصاحة لسانه)، جعل المؤرخون ينتقدونه بشدة. فبعد أن ظل لفترة من الوقت مؤيدًا لأتباع أوريجين، تغيَّر موقفه فجأة، وقام بمهاجمة الرهبان التابعين لأوريجين في صحراء وادي النطرون وإجبارهم على المنفى.
واضطرته هذه القسوة إلى الذهاب للدفاع عن نفسه في القسطنطينية؛ حيث كان قد لجأ إليها قرابة خمسين راهبًا كانوا فارّين منه. وقد وصل تيوفيلوس محاطًا بتسعة وعشرين أسقفًا مصريًّا، ونجح في كسب معركته بفضل العديد من معارفه في البلاط الإمبراطوري، مطالبًا عام 403 باستدعاء يوحنا كريزوستوم للمثول أمام المجمع.
وأدت هذه الأحداث إلى النفي النهائي ليوحنا عام 404. إلا أن البابا إينوست الأول قد اعترض بعد ذلك على هذه الإدانة، دون أن يتمكن من تبرأة يوحنا، وقام بحرمان تيوفيلوس الذي كان قد نسج هذه المؤامرة عن طريق وسائل عديمة الشرف» (صفحة 3593) .
وتكشف هذه النبذة، التي أوردناها بكاملها، عن مدى عدم أمانة القائمين على تلك المسيحية، التي كانوا ينسجونها عبر المكائد والمؤامرات، وكيفية الإطاحة لا بالخصوم الوثنيين فحسب، وإنما بنفس القائمين معهم على ذلك الدين!!
ومن الوثائق الغربية القديمة، يورد الباحث جي دفيتش في كتابه عن «حرب المخطوطات» أن المؤرخ اللاتينى ليبانيوس Libanios أورد في كتابه المعنون « من أجل المعابد » ما يلي: « من أكثر المندفعين حماسًا في حرب الجبابرة هذه، هم الرهبان الذين كانوا يجوبون المقاطعات حاملين الهروات والروافع والشواكيش؛ ليقوموا بكسر التماثيل وهدم المذابح والمعابد (...) وفي عام 391 قام تيوفيلوس أسقف الإسكندرية على رأس عدد من أتباعه المسيحيين بغزو معبد السيرابيوم وهدمه بعد أن سرقوا ما به، ولم يتركوا إلا قاعدة المعبد لضخامة أحجارها ».. (ترجمة رنيه فان لوي، بيزنطة، المجلد السابع، طبعة 1933).
وإضافة إلى قرار الإمبراطور تيودوز الصادر عام 393م، والذي ينص على استكمال عملية اقتلاع الآخر، قائلاً: «إننا نريد أن يتم هدم كافة المعابد والآثار الوثنية التي لا تزال قائمة، ونأمر بأن يتم محو ذلك الدَّنَس بإقامة العلامة المبجلة للديانة المسيحية، وسنحكم بالموت على كل من يخالف أمرنا، هذا عن طريق القضاة المتخصصين» (Cod. Théo. XVI, p.125 ) .
وإضافة إلى قرار تيودوز هذا، هناك قرارات العديد من المجامع المسيحية التي تنص على مواصلة عملية الاقتلاع، ومنها مجامع المدن الفرنسية التالية : آرل عام 573، ونانت عام 668، وروان عام 687، وخاصة ما قام به الإمبراطور شارلمان الذي اقتلع ما بقي من وثنية بصورة وحشية حتى وصفه المؤرخ آرثر كمب في كتابه المعنون: «مسيرة الجبابرة»، بأنه «قد مارس التبشير بالقتل العرقي». وهو ما يوضح بأية وسائل تم فرض المسيحية في كل الأماكن التي دخلتها..
وفى كتاب بعنوان « شمس الله تشرق على الغرب » (1963)، تقول الباحثة الألمانية سيجريد هونكه (S. Hunke): « إن القرن الثالث يفتتح سلسلة من أعمال الهدم المنهجية؛ إذ قام الأسقف المسيحي بإغلاق الموزيوم، وطرد كل المثقفين منه. وفي عام 366، تحت حكم الإمبراطور البيزنطي فالنس، تم تحويل السيزاريوم إلى كنيسة، وحرق مكتبته بعد نهبها، ومطاردة فلاسفتها بتهمة ممارسة السحر.
وفي عام 391 طلب الأسقف تيوفيلوس من الإمبراطور تيودوز الموافقة على هدم مركز حج القدماء، وآخر قلعة علم باقية، السيرابيوم، والقيام بحرق مكتبته. وبذلك ضاع من الإنسانية إلى الأبد كنز لا يمكن تعويضه » (صفحة 217).
وتواصل الباحثة بعد ذلك قائلة: « إلا أن أعمال الهدم التي يقوم بها المسيحيون المتعصبون لم تتوقف عند ذلك. إذ إن صديق الأسقف سيفيريوس من إنطاكيا يعترف بلا خجل أنه والأسقف قد كانا في شبابهما أعضاء في جمعية مسيحية شديدة النشاط في الإسكندرية في القرن الخامس، وقاما هما الاثنان بمعارك شرسة ضد المثقفين الوثنيين، وهاجموا معابدهم وقاموا بتكسير تماثيلها وكل منشآتها. وبذلك اختفت معالم الثقافة الهللينية الواحدة تلو الأخرى.. وفي عام 529م تم إغلاق آخر مدرسة للفلسفة في آثينا، وفي عام 600 تم حرق المكتبة المسماه «الإمبراطورية» التي أسسها أغسطس في روما. وتم منع قراءة الأعمال الكلاسيكية ودراسة الرياضيات، وهدم المتبقي من أبنية العبادات القديمة » (صفحة 218).
أي إن عمليات الهدم والحرق في محاولة دءوبة لاقتلاع الآخر من جذوره لم تتم في مدينة الإسكندرية وحدها، وإنما تواصلت في كل البلدان التي امتدت إليها المسيحية..
وتوضح سيجريد هونكه في نفس الصفحة قائلة: «وعندما دخل العرب مدينة الإسكندرية عام 640، لم يكن بها آية مكتبة عامة.
أما حريق المكتبة الكبرى الإسكندرية، والذي تم إلصاقه بعد خمسة قرون بالقائد عمرو، فالعديد من الأبحاث الدقيقة سمحت بتأكيد أن هذه مجرد فرية، ويا لها من فرية حقيرة.. وكم كانت سعادة من افتروها؛ لاتهام «البرابرة» !
والعكس هو الصحيح، ففي مسيرته الفاتحة المنتصرة، قدم فاتح الإسكندرية العديد من النماذج على عظمة التسامح لديه، فقد منع القيام بنهب وهدم المدن، ثم، ويا لعظمة وغرابة ما أقدم عليه: فقد سمح لرعاياه الجدد بممارسة عبادتهم التقليدية » .. أي إن المسلمين لم يقوموا بأية عملية لاقتلاع الآخر، وسمحوا للمسيحيين واليهود بممارسة عباداتهم!
ويقول الفونس دان (A. Dain) في كتابه المعنون «المخطوطات» (1980): « يقال عادة: إن جنود الخليفة عمر أحرقوا معبد السيرابيوم، وما كان يضمه من مكتبة شهيرة في هذه المدينة. وقد صدّقت تلك المقولة أنا شخصيًّا، إلا أنه يجب عليّ أن أعترف بخطئي، إذ ما إن رحت أتبين الأمر حتى وجدت أن من قام فعلاً بحرق مكتبة الإسكندرية هم مسيحيو الأسقف تيوفيلوس.
وهنا لا بد من توضيح أنه كان بالإسكندرية مكتبتين : مكتبة البروخيون، وكانت في وسط المدينة، وقد هدمها أورليان سنة 273 حينما استولى على المدينة، ومكتبة السيرابيوم، التي هدمها الأسقف تيوفيلوس عام 391.
ويقول القس أوروز، مؤلف «كتب ضد الوثنيين » عام 417، أنه عند مروره بالإسكندرية رأى «دواليب الكتب التي أفرغها رجالنا من محتوياتها » ( الكتاب السادس، الفصل الخامس عشر).
وهذه الملاحظة سابقة على الفتح الإسلامي الذي حدث في منتصف القرن السابع» ( صفحة 189 ).
وما يؤكد أن الحرق والتدمير كان من عادة المسيحيين ووسيلتهم في فرض عقيدتهم، القرار الذي أصدره تيودوز الثاني، والذي ينص على: «حرق كل ما كتبه بورفير أو غيره ضد عبادة المسيحيين المقدسة لكى لا تقوم هذه الأعمال بإغضاب الرب»، وارد في وثيقة :(Codex Theodosianus XVI,6,66 ). كما قام البابا جريجوار الأكبر(590 – 604 ) بحرق المكتبة المعروفة باسم «الإمبراطورية» في روما.
لذلك يقول جى دفيتش: «لقد تم تنصير التاريخ بالتدريج بخطوات متتالية منذ القرن الثاني، وتواصلت عمليات الهدم والحرق والإبادة ليبدأ ما أُطلق عليه «العصر الأسود» الذي امتد ألف عام»، ويقصد عصر الظلمات الذي شاهد محاكم التفتيش، والحروب الصليبية، والحروب الدينية، وتحريم العلم ومحاربة العلماء– وهو ما يتمشى قطعًا مع نفس منهج حرق المكتبات وتدمير المعابد!
وكذلك تم حرق كل الأعمال التي كانت تتضمن الصراعات اللاهوتية مثل أعمال سيلسيوس وبورفير، وحاكم بيت عانية، والإمبراطور جوليان، وما بقي منها فهو معروف من الأجزاء المذكورة كاستشهاد في الرد عليها!
وقد أورد المؤرخ إدوارد جيبون: «أن من حرق مكتبة الإسكندرية هو الأسقف تيوفيلوس، العدو اللدود للسلام والفضيلة، ذلك الجريء الشرير ذو الأيادى الملطخة بالدماء والذهب على التوالي، وهادم السيرابيوم» (قفول وسقوط الإمبراطورية الرومانية، الفصل 28).
وفي أواخر القرن الرابع وصل اضطهاد الوثنيين إلى ذروته، فقد تم هدم معظم المعابد، كما قد تم حرق وهدم باقي المكتبات الخاصة، وتمت محاربة العلوم والرياضيات والفلسفة، وتم إغلاق المدارس الفكرية؛ ليبدأ عصر اضمحلال رهيب في مدينة اشتهر صيتها عبر العالم القديم كمنارة للعلم والتقدم.. فممن عملوا في مكتبتها الشهيرة، ونهل من دررها لمدة عشرين عامًا، المؤرخ استرابون وغيره..
أما عن ذلك النص العربى المزعوم، فأول ما نبدأ به هو رأي المؤرخ إدوارد جيبون، في نفس مرجعه السابق الذكر، حيث يقول: « إن قرار الخليفة عمر يتناقض مع المبادئ الأصلية والسلمية لعلماء المسلمين، الذين يرفضون قطعًا حرق أية نصوص دينية يهودية أو مسيحية تم الاستيلاء عليها في المعارك الحربية ».. وهذا مجرد تعليق منطقي واحد، يتمشى مع كل ما يقوله الأمناء من علماء الغرب المسيحي عن أخلاقيات المسلمين وتصرفاتهم في البلدان التي حكموها.
وإذا ما نظرنا فيمن قال هذه المعلومة، وهو جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف القفطي ( 568هـ /1172م ـ 646هـ /1248م)، لوجدنا في موقع « المكتبة الوطنية لعلم الطب » في مدينة أوكسفورد البريطانية: « أن له 26 مؤلفًا، لم يبق منها سوى اثنين، إحدهما « تأريخ الحكماء » الوارد فيه هذا النص، غير أن هذا الكتاب ليس النص الأصلي وإنما تلخيص له بقلم الزَوْزَني. والكتاب يضم 414 سيرة ذاتية مختصرة لأطباء وفلاسفة وعلماء فلك، إضافة إلى العديد من الاستشهادات المأخوذة عن كتّاب يونانيين لم يحتفظ بها في الكتاب الأصلي »!
وتحتفظ المكتبة الوطنية لعلم الطب بنسخة منه تحت رقم ( Ms A 72 ). وقد قام بترجمته إلى الألمانية وطبعه العالم يوليوس ليبّرت في مدينة لايبزيج سنة 1903م.
وبعد خمس سنوات، أي في عام 1908، طبع لأول مرة بالعربية على نفقة أحمد ناجي الجمالي، ومحمد أمين الخانجي وأخيه، بعنوان «تأريخ الحكماء»، وهو مختصر الزَوْزَني المسمى بالمنتخبات الملتقطات من كتاب «إخبار العلماء بأخبار الحكماء»، وقد تمت مراجعته على كتاب ليبرت.
أما السياق الذي أتى فيه هذا الاستشهاد فلا يقل افتراءً في مغزاه من الفرية نفسها؛ إذ يقول النص: إن الأسقف يحيى النحوي قد طلب من عمرو بن العاص أن يعطيه الكتب التي في المكتبة قائلاً: « قد أوقعت الحوطة عليها ونحن محتاجون إليها ولا نفع لكم بها »!
أي إن الأسقف وأعوانه، والغارق معهم في الصراعات الدينية حول التثليث، وفقًا لما هو وارد في نفس صفحة القفطي، هم يقدِّرون العلم وبحاجة إلى الكتب لصونها من الضياع، وأما المسلمون الجهلاء فقاموا بتدميرها!!
ومن الواضح أن النص المزعوم الوارد في كتاب القفطي كان عبارة عن استشهاد من الاستشهادات المنقولة عن أحد اليونانيين المسيحيين، الذين يعنيهم تبرأة بني جلدتهم من كل ما اقترفوه من حرائق وتدمير واقتلاع لتراث حضارة بأسرها. خاصة وأن الفترة التي كان فيها ابن القفطي على قيد الحياة أو حتى السنة التي تم فيها عمل نسخة من ذلك الكتاب بعد وفاته بعام، بقلم الزَوْزَني، تقع في قلب فترة الحروب الصليبية بكل ما واكبها من محاولات للنيل من الإسلام والمسلمين..



 

وإذا ما نظرنا من الناحية الدينية الإسلامية، لأدركنا لا معقولية هذه الفرية، فقد بدأ تنزيل كتاب الله العزيز بفعل أمر، وهو : « اقرأ »، كما أن ثانى سورة أُنزلت هي سورة «القلم» .. أي أن أولى خطوات الرسالة الإسلامية بدأت بالحث على القراءة والكتابة، على دراسة الكتاب المسطور والكتاب المنظور في رحابة الكون على اتساعه..
فكيف يمكن لعاقل أن يعقل فرية أن يقوم سيدنا عمر، وهو من صاحَبَ رسولنا الكريم، صلوات الله عليه، بأن يتفوه بمثل هذا الجُرم، لا في حق العلم والعلماء فحسب، ولكن في حق الدين الذي عاصر نشأته، وواكب أولى خطواته، وعمل على انتشاره ؟!

الاثنين، 23 ديسمبر 2013 0 التعليقات

مسلم ومسيحي كلنا أيد واحدة بنحب مصر





مسلم ومسيحي كلنا أيد واحدة بنحب مصر
  يقول الحق سبحانه وتعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ).  و يقول يسوع المسيح في إنجيل متى: " سمعتم أنه قيل عين بعين ، وسن بسن ، وأما أنا فأقول لكم : لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الأخر أيضا ، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا.."
بعيداً عن النبرة التعبوية التحريضية التي تعالت في الآونة الأخيرة في الأوساط المختلفة في مصر والتي تزرع الفتنة الطائفية وتزكي نيرانها انطلاقاً من دوافع عاطفية بريئة حينا، ومن أطماع شخصية مغرضة حيناً ثانياً ، ومن تدخلات خارجية أجنبية خبيثة في أحيان كثيرة. وبعيدا كذلك عن أسلوب الطبطبة ، ودفن الرأس في الرمال الذي بات القاعدة التي ما تفتأ الحكومات المصرية المختلفة تتبعها كلما وقعت جريمة من جرائم الفتنة الطائفية في مصر. تعالوا بعيدا عن كل ذلك نغلب صوت العقل وهدوئه على صوت العاطفة وطيشها. إنه دائما ما يحدث عندما يرتفع صوت الضجيج والصخب الأهوج أن يفقد الإنسان الهدوء والتركيز العقلي، والاتزان العاطفي فيغفل عن أشياء هي في حكم البديهيات. لذا أدعوكم الآن إلي أن نرصد بكل حياد وموضوعية أموراً هي من قبيل المسلمات البديهية لكن تشنجات العاطفة المغرضة جعلت الإشارة إليها في الوقت الراهن ملحة، بل وشديدة الإلحاح.
ما كان أغنانا عن التذكير بهذه البديهيات لو كانت الأمور في مصرنا الحبيبة تسير في مسارها الطبيعي ، ولا تتشعب حسب الهوى والمزاج. إن الوحدة الوطنية المصرية تضرب بجذورها في أعماق أعماق الشخصية المصرية، وتقوم على ثوابت راسخة في نسيج البنيان المصري. ونحن لا نقول هذا من وحي الخاطر ، ولا ن فورة العاطفة ، بل انطلاقاً من أدلة عقلية موضوعية لا يمكن أن يغفلها إلا كل جاحد مغرض. ومن الممكن تصنيف هذه الثوابت إلي أنواع أربعة:
أولا: ثوابت دينية عقائدية:
لا شك أن الديانتين المسيحية والإسلامية في أسسها العقائدية تنبذ التخاصم والكراهية والتعصب الأعمى للدين أو للرأي، وتدعوان إلي المحبة والإخاء والتسامح . والكل يعرف أن المسيحية في جوهرها العقائدي بعيدة كل البعد عن التعصب والتطرف. وكلنا يحفظ ويعرف الشعار المسيحي الخالد " الله محبة " أي أن إيمانك بالله يقوم أول ما يقوم على حبك لله ، وحبك لأخوتك في الإنسانية ، وأن الحبين لا ينفصلان ، فلا يمكن لأحد الحبين أن يستقيم بدون الآخر. وكلنا يعلم ولا يحتاج إلي تذكير كذلك بالآية العظيمة المجسدة لكل ذلك " المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة". إن سياسة تحويل الخد، ووصية يسوع المسيح الخالدة " أحبوا أعداءكم وباركوا لأعينكم، وأحسنوا إلي مبغضيكم.." تكاد تكون نقطة تفرد تنفرد بها المسيحية دون الديانات الأخرى. فمن أين يأتي التعصب في ديانة رقيقة كهذه إن لم يكن من النفوس الضعيفة والعقول المغرضة؟؟! أما الإسلام فكم شدد وأكد على أن الدين المعاملة، وأن إيمان المرء لا يقاس بكثرة صلاته وصيامه، وإنما في حسن معاملته لغيره من إخوته في الإنسانية. وشدد القرآن الكريم على قيم التسامح التواد والرحمة من خلال تأكيده على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وعند الإساءة على المسلم أن "يدفع بالتي هي أحسن ". وكلنا يعرف أيضا ولا يحتاج إلي تذكير الآية الكريمة التي تعلي من مكانة الأقباط، وتجعلهم دون سواهم من أصحاب الديانات الأخرى الأقرب مودة ورحمة إلي المسلمين. وأشادت بأفئدتهم الرقيقة الحانية التي تفيض بالدمع لما تعلمه من الحق. وحفلت السنة المطهرة بأحاديث عديدة جعلت للأقباط وأصحاب الديانات السماوية الأخرى ذمة وعهداً، ومن هنا جاء اللقب الذي ألصق بهم في عصور الإسلام الأولي " أهل الذمة". لقد جعل الرسول الكريم إيذاء أهل الذمة بأي نوع إيذاءً في المقام الأول لرسول الله نفسه. بل وشدد الرسول الخاتم على ضرورة التسامح والإخاء بين المسلمين والأقباط مؤكداً على أن " من أذي ذمياً فأنا خصمه يوم القيامة".وجعل لحياة أهل الذمة قدسية وحرمة لا يجوز الاعتداء عليها. فقد روى عمرو بن العاص عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال " من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة." وحفلت السيرة النبوية الشريفة ، وكذلك العصور الإسلامية المختلفة بسيل جارف من المواقف التي انتصر فيها المسلمون وذوي السلطان لأصحاب الديانات الأخرى على حساب المسلمين أنفسهم. وكان العهد الذي أعطاه عمر بن الخطاب لرجال الدين النصارى عند تسليم بين المقدس دستوراً للتسامح الديني والإخاء.    
ثانيا: الثوابت المجتمعية التعايشية:
يتعايش الأقباط مع المسلمين في مصرنا الحبيبة منذ دخول الإسلام في وحدة وانسجام مجتمعي وحياتي لا يمكن أن تنفصم عراه أبدا. إن هناك تلاحماً مجتمعياً متين البنيان بين عنصري الأمة في مصر هو نتاج موروث طويل من الحياة والترابط الرحيم بين الطرفين. وأتحدى أي إنسان يستطيع أن يدخل بناية سكنية ، أو هيئة أو شركة ، أو حتى يسير في الشارع ، أو يجلس في الأماكن العامة وينجح في التمييز بين قبطي ومسلم من مجرد النظر ، أو حتى التدقيق. إذ لا يوجد في كل هذه البقاع سوى الإنسان المصري بعاداته وتقاليده الواحدة المتوارثة منذ آلاف السنين. الجميع في تلاحم مجتمعي جميل أشبه بتلاحم خيوط القماش الواحد. ففي السكن يتجاور المسلم مع القبطي وتقوم بينهما جيرة وعشرة ربما تكون أقوي من تلك التي تقوم بين المسلم والمسلم في البناية الواحدة. وفي العمل وفي المتاجر وفي المؤسسات ، وفي كل مكان يتلاحم القبطي مع المسلم بلا أي نوع من الحساسية أو التنابز ، بل من المسلمين من يفضل صحبة ومعاشرة جيرانه من الأقباط على صحبة جيرانه من المسلمين، ويلجأ إليهم في أوقات الشدة حتى قبل أن يلجا ربما إلي أقاربه من لحمه ودمه. والعكس أيضا من الأقباط من يستعين بمساعدات جيرانه المسلمين ويفضلهم على الأقباط أنفسهم. ولم نر في يوم من الأيام أحداً من الأقباط قد أحدث تمييزاً في المعاملة فأثر التعامل من نظائره من الأقباط على حساب التعامل مع المسلمين، والأمر بالمثل لا ينفر المسلمون من التعاملات اليومية (التجارية والحياتية) مع الأقباط ويفضل عليهم المسلمين. بل حتى في الأمور الطبية يثق المسلمون ويذهبون إلي الأطباء الأقباط بلا أدنى شعور بالحرج من تعرية أجسامهم، وأجسام نسائهم أمام أقباط يخالفونهم في العقيدة. والأمر بالعكس أيضا مع الأقباط في ذهابهم إلي الأطباء المسلمين.
في الفنون والآداب والرياضة نتذوق الفن الجميل من موسيقى وغناء وشعر وتمثيل ولعب دون أن نشغل أنفسنا بالتساؤل عن ديانة هذا الفنان أو هذا اللاعب. وحتى لو عرفنا ديانته فإن هذا لا يؤثر في حكمنا عليه في شيء. بل حتى رجال الدين الأقباط عندما نقابلهم في المواقف المختلفة ونسلم عليهم أو نشير إليهم في الحديث نعطيهم لقب "أبونا" تماما مثلما يسميه الأقباط دون أدني شعور بالغضاضة من ذلك. ونلتزم بذلك في كل إشارة إلي البابا شنودة الثالث، ومع غيره من آباء الكنيسة. وفي المناسبات الدينية والجنائزية يتزاور الأقباط والمسلمون ـ ولا اقصد هنا على المستوى الرسمي كما يظهر على الشاشات كنوع من الدعاية ـ وإنما أقصد على المستوى الشعبي بين فئات الشعب البسيطة . بل وهناك توجد أعياد مشتركة بيننا وبين الأقباط نمارس فيها نفس الاحتفالات والزيارات.
 هل يستطيع أحد أن يميز بين قبطي ومسلم في الحشود التي تخرج في الاحتفالات التي تتم في الشوارع عقب الانتصارات الكروية المختلفة ؟؟ وفي المناهج الدراسية التي يدرسها الطلاب في الجامعة على سبيل المثال خاصة في قسم الفلسفة يدرس الطلاب جميعا الفلسفة المسيحية وعلم اللاهوت جنباً إلي جنب مع الفلسفة الإسلامية دون أن نسمع أو أن نرى اعتراضاً لا من المسلمين ولا من الأقباط. وأينما أدرت بصرك في فئات المجتمع المصري لن تجد إلا مصرياً يتعايش مع مصري مثله دون أدنى اعتبار للديانة أو الملة.
ثالثا: الثوابت التاريخية والوطنية:
يشترك عنصرا الأمة المصرية في واقعة أنهما يمتلكان تاريخاً وجغرافيا واحدة إن جاز لنا التعبير. كلا العنصران يمتلكان الأرض المصرية بلا تمييز بين بقعة تخص الأقباط وأخرى تخص المسلمين. ويمتلك الاثنان تاريخياً واحداً مشتركاً مسطوراً بدماء الشهداء التي سالت في كل الأحداث التاريخية الكبرى التي شهدتها مصر. ودائما ما كان الاثنان يتلاحمان في هذه الأحداث المصيرية على مدي تاريخ مصر كله : ابتداءً من الاشتراك معاً في مقاومة المغول والصليبين ، ومروراً بالثورات التي قامت لمقاومة طغيان السياسي والاجتماعي للمماليك والعثمانيين ، وانتهاءً بمقاومة العدوان الإسرائيلي الحديث على الأراضي العربية في 48 ، و56 ، و67، و73. ففي كل هذه الثورات والحروب التحريرية التي شهدتها مصر عبر تاريخها الطويل كان الأقباط شركاء لإخوانهم المسلمين ـ بكل ما في الكلمة من معنى ـ حتى ولو كان المعتدي مسيحياً مثلهم. لقد قاوم المصريون ـ بلا تمييز ـ الاحتلال البريطاني في ثورات عرابي و1919م و1952م رغم كون الإنجليز مسيحيين مثلهم مثل الأقباط. دون أن يشعر القبط بأي حرج لأنهم يدافعون عن وحدة التراب الذي يشتركون في امتلاكه مع المسلمين. أمنوا بوحدة الدم المصري ، ووحدة التراب ، وأنهم شركاء في إدارته مع المسلمين ، لذلك نحوا الدين جانباً ، وغلبوا عليه حب الوطن . ومن ثم باءت نتيجة لذلك كل المحاولات التي بذلها الاحتلال البريطاني لزرع الفتنة بين الطائفتين في مصر على ما يزيد من سبعين عاما.
وإن كنا ننسى فلا يمكن أن ننسى دور عيس الغواص مع صلاح الدين وهو يحارب مسيحيين من ملته. ولا يمكن أن ننسي دور فكري مكرم عبيد وغيره من القبط في ثورة 19 عندما تعانق الهلال مع الصليب. إن الدماء التي سالت في الحروب المصرية الحديثة كانت دماء مختلطة، لا يمكننا أن نفصل فيها بين دماء القبط ودماء المسلمين. وكل لوحات الشرف والنصب التذكارية التي تخلد أسماء الشهداء المصرين في حرب 72 تضم أسماء الشهداء الأقباط جنباً إلي جنب شهداء إخوانهم المسلمين لتكون أكبر شاهد على الوحدة المصرية الوطنية. سل رمال سيناء، واستمع إلي صوت حصى أرض الفيروز يخبرانك أن الدماء التي سالت هناك كانت دماء مصرية وليست مسلمة أو قبطية. كان بامكان القبط إعلان العصيان المدني في وقت الاحتلال أو الحرب، طالما أنه سيتحالفون بذلك مع أبناء ملتهم ويستقوون بهم على المسلمين، ويجنون من وراء هذا التحالف مكاسب عظيمة. ولكنهم هبوا ووقفوا وقفة رجل واحد مع إخوانهم المسلمين في مقاومة هذا العدوان، لأنهم يؤمنون أنهم والمسلمين يشتركون في امتلاك هذا التراب المغتصب، ومن ثم يتعين عليهم أن يضحوا في سبيل تحريره بكل غالي ونفيس.
رابعا: الثوابت الثقافية والتراثية:
كما تقوم الوحدة الوطنية المصرية على ثوابت مترسخة في مقومات الشخصية المصرية نفسها. فالأقباط والمسلمون يمتلكون بناءً ثقافياً وتراثياً واحداً، لم تستطع الديانة أن تغير فيه إلا تغييراً سطحياً بسيطاً. لقد أبت البيئة المصرية إلا أن تترك بصمتها الثقافية والفكرية على كل من يعيش على التراب المصري، وهذه عبقرية المكان في مصر، فهو الذي يصبغ من يعيش عليه بصبغته، وليس من يعيش عليه هو الذي يصبغه بصبغته.
لقد تشربنا نحن جميعا من الأرض التي نعيش فيها أسلوب التفكير المصري القديم. فهناك أفكار ومعتقدات ثقافية وتراثية، وكذلك جوانب فلكلورية مشتركة بين عنصري الأمة في مصر لا يوجد تفسير لها من الدين سوى أنها ترتد إلي الموروث الثقافي المصري الواحد. ولنضرب أمثلة فقط لهذا الميراث المصري المشترك:
 1- فكلا من الأقباط والمسلمين يشتركان في مسألة التبرك بالأولياء والصالحين، وفي إقامة الموالد والاحتفالات السنوية لهم ولذكراهم، والتي تكاد تتكرر فيها نفس الطقوس الاحتفالية عند الطائفتين تكراراً عجيباً، إن دل على شيء فإنما يدل على أن مصدرها واحد هو البيئة المحيطة وليس الدين.
2- يشترك كل من الأقباط والمسلمون في الإيمان بأن لبعض الأماكن ولبعض الحصى والرمال والأحجار بركة وقوى روحية عظيمة فيذهبون إليها للتبرك بها ، والتوسل بها لرفع ما يعانون به من آلام وحرمان، فنجد المرأة العاقر تزور مثلا هذه الأماكن التماساً للحمل بغض النظر إن كانت تخص المسلمين أم الأقباط.
3- يشترك كل من عنصري الأمة في الاعتقاد في مباركية رجال الدين والأطهار المقربين فيلجئون إليهم استنجاداً بهذه القدرات المباركة لرفع ما بهم من بلاء، أو للتوفيق فيما يأملون بلوغه من غايات. فنجد المسلمين مثلا لا يجدون حرجاً دينياً في الذهاب إلي القساوسة والرهبان لطرد الأرواح الشريرة والجان من أجسادهم المسكونة، أو لفك المربوط منهم. والأمر بالمثل لدي القبط لا يشعرون بأدنى غضاضة دينية في اللجوء إلي رجال الدين الإسلامي والصالحين للغرض نفسه.
4- يشترك عنصرا الأمة المصرية كذلك في الإيمان بأن لدور العبادة قدسية وحرمة أيا كان نوعها أو الملة التي تُعبد فيها. ومن ثم فلا يجوز الاعتداء عليها أو انتهاك حرمتها أيا كانت المبررات والأسباب حتى ولو كانت ملاحقة مجرمين وخارجين على القانون لجئوا إلي حماها.
5- يشترك الأقباط والمسلمون في امتلاك موروث فلكلوري وثقافي واحد متمثلاً في الطقوس التي يتم ممارستها في الأفراح والجنائز وأعياد الميلاد وغير ذلك من المناسبات الاجتماعية المختلفة. إننا نجدهم يطلقون الزغاريد ويرددون نفس الأغاني الفلكلورية ويتبادلون نفس الدعوات، ونجدهم في المأتم يشتركون في إقامة ليلة الأربعين على روح الميت وهي بدعة لم ترد في التعاليم الدينية لكلا الديانتين. كما أن الأرامل من الأقباط والمسلمين يلتزمن بارتداء السواد طيلة حياتهن بعد رحيل أزواجهن مهما امتد بهن العمر.
6- يشترك الأقباط والمسلمون في الإيمان بقوة الحسد والعين وتأثيرهما القوي على أمور حياتهم، فنجدهم يضعون في بيوتهم الرقي والتعاويذ (الخرزة الزرقاء ، خمسة وخميسه .. الخ) وغيرها من الموروث الشعبي الذي يستعين به المصري القديم لخزي عين الحسود وردها خائبة.
7- نتذوق نحن جميعاً الفن والدراما المصرية على الشاشتين الصغيرة والكبيرة ، وكذلك الأغاني الجميلة دون تفرقة أو تأثر في الحكم بديانة من يؤديها. فلا يوجد عندنا أي نوع من الحساسية الدينية في تذوقنا للفن الجميل. إننا لم ولن نشاهد تفرقة بين دراما تخص المسلمين وأخرى تخص الأقباط، وإنما كلها دراما مصرية مهمومة بهموم الوطن والمواطن بصرف النظر عن ملته ودينه، يمثلها المصريون جميعاً، ويتذوقها أيضا المصريون جميعاً.           
   لا وجود حقيقي للفتنة الطائفية في مصر لأننا جميعا نمتلك ماضياً واحداً، وحاضراً واحداً ومستقبلاً واحداً. ومن ثم فإما التلاحم والتآزر معاً للدفاع عن وحدتنا الوطنية في وجه كل مغرض حاقد لا تهمه المصلحة العامة، بل تحركه الأغراض والأطماع الشخصية الدنيوية، وإما فإن البديل الوحيد الباقي هو الدمار التام لكلا الطرفين.
   إن النتيجة المنطقية لكل ما سبق هي أن الوحدة الوطنية المصرية تقوم على ثوابت قوية لا يمكن أن تهتز أو تُقتلع من جذورها مهما كانت العواصف التي تهب عليها. إن من يزعم أن هناك فتنة طائفية في مصر، أو حتى أن هناك بذوراً لها لا يخرج عن اثنين: إما جاهلاً لا يعرف مقومات الشخصية المصرية الحقيقية، وإما مغرض موتور يسعى وراء المكاسب الشخصية ، وتلقى الأموال من جهات أجنبية يهمها زعزعة الاستقرار في مصر لأغراض لا تخفى على كل لبيب.

0 التعليقات

عمر الفاروق البطل والمثل والرجل....




عمر الفاروق والبطل ومثل والرجل
لكل قائد عظيم رجال يلتفون حوله؛ بعضهم يطمع في السلطان.. وبعضهم في الحظوة.. وبعضهم يقوده المال.. وآخرون لغير ذلك من مآرب النفس.. علت أم هبطت في ميزان الأخلاق.. والرجولة!
ولكن الرجال حول محمد بن عبد الله؛ رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم- كانوا من نوع آخر...؟
فرسول الله لم يكن عنده مال، ولا مناصب، ولم تكن له دولة في بداية دعوته، وقد عذب بعض أتباعه حتى الموت!..واضطهد آخرون، وقوطعوا في شِعْب أبي طالب سنوات ثلاث، وأخرجوا من وطنهم... واغتربوا في الآفاق!!..والذين التفوا حول رسول الله إنما آمنوا بالله وبرسوله، وبالإسلام دينا من عند الله بعث به محمد بشيرًا ونذيرًا إلى الناس كافة منها المساواة بين الناس، في مجتمع كان يجعل في الناس: عبدًا، وسيدًا، ومولى ويضع كل واحد في سلم من تفاوت الطبقات لا يتجاوزه..ومنهم من وجد فيه الغَناء عن أصنام لا تسمع، ولا تنفع وإنما كانت لصغار العقول وقاصري الأفهام من الناس، فلما وجد الحق تعلق به وترك تلك الحجارة الصماء!
ومنهم من سحره ذلك القرآن الرائع العظيم في فصاحته وبلاغته وبيانه.. وسموه عن كلام البشر، وحقائقه المقنعة ورهبته التي تأخذ بمجامع القلوب، فاستشعر الصدق الذي يشع منه، فأسلم، وتابع رسول الإسلام على دعوته.
وفي النفس البشرية تَوْقٌ إلى الحقيقة والعدل والانعتاق من العبودية للبشر وإعلانها لخالق الكون.. الواحد الأحد لا إله إلا هو!
ويلبي نداء الأنبياء دائمًا من خلصت قلوبهم من الكبر وخلصت نفوسهم من الآفات وتاقت إلى الحق والعدل واستشعروا رحمة الخالق سبحانه الرحمن الرحيم وصار للحياة معنى.. يجدونه في الرابطة الرائعة.. بالسماء والآخرة والبعث والنعيم الدائم في ظل رب الكون سبحانه!
كان من الرجال الذين بهرهم كتاب الإسلام هذا القرآن الكريم كلام الله.
رجل متعصب لقومه وأحسابهم وأصنامهم، هو عمر بن الخطاب!
أجمع أمره يومًا أن يذهب إلى رسول الله ليقتله!
" لقد فرق أمر قريش، وعاب آلهمتهم، وسفه أحلامهم يريدهم أن يتركوا دين آبائهم وأجدادهم "!
كان ذلك رأيه، كما كان رأي كثيرين من أهل مكة في صاحب الدعوة إلى الإسلام.
ويلقاه من يسأله إلى أين يا عمر؟
- إلى هذا..!!        
- أصلح أهلك أولا فقد تابع محمدًا على دينه أختك فاطمة وابن عمك سعيد بن زيد!
وينثني عمر راجعًا ويطرق الباب على أخته وزوجها وكان معهما أحد المسلمين (خباب بن الأرت) يقرأ فاختبأ!
ويدخل عمر في شجار مع أخته وابن عمه (زوجها) ويؤذيهما ثم أخذ الصحيفة وراح يقرأ فإذا فيها {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 1-3].
ويقول عمر: إلى أن بلغت {آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الحديد: 7-8] فقلت:" أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله "!!.
وأمثال هذا مما كان يسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أو أحد الدعاة.. للناس.. يدعوهم به للإسلام، وما كان لذلك من أثر في السامعين، فتحولوا من الكفر إلى الإيمان، عدها الدكتور شوقي ضيف، صاحب كتابي: " الوجيز في تفسير القرآن " و" محمد: سيد المرسلين " معجزة للقرآن الكريم.. أسماها: " معجزة الاستماع، لم يتنبه إليها القدماء "!
إرهاصات سابقة؟؟؟
حاول عمر مرة وهو مشرك أن يتصدى لرسول الله وهو في طريقه إلى الكعبة.. فقام خلف رسول الله مستترًا منه، فاستفتح رسول الله يتلو سورة الحاقة، وعمر يسمع، فجعل يعجب من تأليف القرآن.
وقال في نفسه:" هذا والله ما قالت قريش إنه شاعر "، وإذا محمد يتلو: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 40-41]!!! فقال عمر في نفسه:" إنه قول كاهن ".. فقرأ رسول الله: {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة: 42] إلى آخر السورة.
قال عمر:" فوقع الإسلام في قلبي كل موقع "!!
هذه المحاورة الصامتة بين عمر وقول الحق سبحانه وتعالى كأنها تدبير لنقض تلك الخطرات؟؟ حتى تنهار مقاومة عمر أو بعضها للإسلام!.
وجاءت اللحظة التي أنقذت عمر، وكسب الإسلام رجلا عظيما؟؟
ويبدأ عمر بن الخطاب مشواره في الإسلام..
عمر المبدع.. على غير منوال؟؟!
صاغ الإسلام المجتمع الجديد على أفكاره ونظامه وشريعته.. ونقل الناس من حال إلى حال.. وكان من أثر ذلك: أن كشف عن معادن رجال عظام في كل ميادين الحياة!..رجال فقهوا مبادى الإسلام، فصاروا له جنودًا مخلصين، أعطوه أروع ما عندهم، وأعظم ما تفتحت عليه قرائحهم، حتى تحققت مبادئه في الحياة!
وكان ابن الخطاب أحد أولئك الجنود الذين صاغهم على مبادئه، فكان من أعظم رجال الإسلام!!
وتأتي إليه خلافةُ المسلمين وتسيير شؤون حياتهم، فيسير بهم على طريق الإسلام لا يحيد عنها.. ويستشعر مسؤوليته عن كل من في أرجاء الدولة المترامية ويقول: لو أن عنزة عثرت على شاطئ الفرات لظننت أني مسؤول عنها!!
كان يتفقد أحوال الناس، في عاصمة الخلافة ليلا ومعه تابعُه، وفي أثناء مروره بأحد الأزقة سمع بكاء طفل.. فأمر تابعه أن يطرق الباب على أهله لتصحو أمه له. ويفعل التابع ويتابعان سيرهما، وفي عودته يطرق الباب ويسألها..؟
وتجيب المرأة: إني أحاول فطامه.
- ولماذا؟
- لأن عمر يفرض للطفل الفطيم! (يخصص راتبًا للطفل إذا فطم)؟
وينقل التابع، ما سمعه من المرأة فيضرب عمر جبهته: " إذن أنا المسؤول "!
ويأمر المرأة أن ترضع طفلها!
وفي الصباح كان المنادي يعلن في المدينة " أن أمير المؤمنين يفرض لكل طفل في الإسلام، فلا ترغموا أطفالكم على الفطام "!
وطارت الكتب تأخذ طريقها إلى أنحاء الدولة تخبر بهذه الرغبة العمرية!
إن الكثير من الدول، وفي هذا العصر الذي يضع (حقوق الإنسان) على سلم أولوياته وبعد 1400 عام من فعل عمر، لا تعرف هذا الواجب نحو أطفالها!
وفي واقعة أخرى...
كان عمر بن الخطاب يجول في أسواق المدينة فيلقى رجلا ضريرًا يسأل الناس. ويسأله أمير المؤمنين: من الرجل؟ ويجيب: يهودي من أهل الذمة لا يجد طعامًا!
ويستشعر عمر، الحاكم المسلم، مسؤوليته عن إنسان من أبناء الدولة من أهل الذمة، ويقول: "ما أنصفناه؛ أكلنا شبابه، وتركناه في عجزه"، ويجعل له عطاء من بيت مال المسلمين يكفيه حاجته!!.. ليكون عوناً للإنسان في شيخوخته.. عندما لا يقدر على العمل فيحفظ كرامته.. ويصونه عن الحاجة!!
ولا تزال المبادرات العمرية... تترى!!
عمر بن الخطاب هو صاحب الاقتراح: أن تكون الهجرة "بدء تاريخ الإسلام"، وابن الخطاب هو صاحب اقتراح جمع القرآن، دخل على أبي بكر بعد عامين من خلافته، فقال: إن أصحاب رسول الله يتهافتون في المعارك تهافت الفراش على النار، وإني أخشى أن تأتي عليهم وهم حملة القرآن، ويضيع منه كثير، فلو جمعته!!؟
وأمر أبو بكر زيد بن ثابت أن يكتب القرآن، فكتب، وبقي عند أبي بكر، ثم عمر، ثم حفصة بنت عمر.
القرآن الكريم يوافق رأي عمر!!
في الحديث أن عمر رضي الله عنه، لما سمع قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ...} [المؤمنون: 12-14].
قال عمر متعجباً: فتبارك الله أحسن الخالقين!!
وتبسم النبي لنطق عمر، فلما سأله عمر عن سر بسمته، قال: إن الله ختم الآية بما نطقت. وقد فرح عمر بذلك وقال: وافقت ربي، ووافقني ربي!!
وفي واقعة أسرى بدر درس عظيم في مبدأ الشورى.. واتخاذ القرار!
ويظل الاجتهاد البشري محكوماً بالرأي الإنساني.. تحف به تصورات كثيرة تأخذ مداها بين الرأفة في أقصى اليمين، والشدة في أقصى اليسار!!!
أسر المسلمون في معركة بدر سبعين من رجال قريش.. وكان فيهم العباس بن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب، فشاور الرسول أصحابه في أمر الأسرى؟؟
قال أبو بكر: يا رسول الله إنهم قومك وأهلك، واستبْقِهم (لا تقتلهم)؛ لعل الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك.
وقال عمر: كذبوك وأخرجوك، فقدمهم واضرب أعناقهم. فإن هؤلاء أئمة الكفر، وإن الله أغناك عن الفداء، فمكن علياً من أخيه عقيل، وحمزة من أخيه العباس، ومكني من فلان (نسيب له) فنضرب أعناقهم!!
وهكذا صار هناك رأيان..
ويأمر رسول الله بالفداء.. ومن لم يستطيع الفداء وكان يعرف القراءة والكتابة.. كان فداؤه أن يعلم عشرة من صبيان المسلمين...
ويصر عمر على رأيه.. وكان معه الأنصاري: سعد بن معاذ.
وينزل من السماء قرآن: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 67-68].
ويبكى رسول الله، ومن عنده..
ويدخل عمر، فيراهم في ذلك الحال!!
ويسأل عمر..
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبكي على أصحابك لأخذهم الفداء ولو نزل عذاب من السماء، لما نجا منه أحد.. إلا عمر وسعد بن معاذ!!!
عمر يغالب نفسه!!
كان عمر يحاسب نفسه، حتى خطراتها!!
يخشى أن تغلبه في لحظة من لحظات الضعف فينساق لها..
يجمع الناس يوماً في المسجد، ويعتلي المنبر ويقول: كنت أرعى إبل الخطاب في شعاب مكة، ومعها إبل لخالتي، وكنت ألبس الصوف (الخشن) من الملابس، وكان الخطاب يرهقني (ضرباً ومساءلة) ثم نزل عن المنبر ويقترب منه ابنه (عبدالله): ما هذا يا أمير المؤمنين!؟.. والله ما زدت أن حقرت نفسك..
وينظر عمر إليه دعني يا عبد الله رأيتُ نفسي ليس بينها وبين الله أحد فأحببت أن أحقرها...وانصرف!!
يا لعظمة النفس في تواضعها وفي عبوديتها لله سبحانه وتعالى.. كم هو عظيم ذلك الشعور الذي يرد النفس.. ويكبح جماحها حتى في خواطرها!!.. فلا تجعل لشهواتها ورغباتها طريقاً على سلوك صاحبها فتشقيه بها!!!
بصيرة.. نافذة؟؟؟
كان عمر يخطب على المنبر في يوم جمعة، وفجأة قطع حديثه وصاح بأعلى صوته (يا سارية.. الجبل... الجبل).. ثم واصل خطبته، وبعد أن أتم الصلاة، سئل عن ذلك؟.. فقال رأيت جيش المسلمين في موقع كذا وكذا، يؤتى من ناحية الجبل، فحذرتهم من ذلك، وسئل بعض الجيش فيما بعد عن الواقعة.. فقالوا: نعم، يصدقون كلام عمر!!
ويقول العقاد في هذه الواقعة: لا داعي للجزم بنفي هذه القصة استناداً إلى العقل أو إلى العلم أو إلى التجربة الشائعة، فإن العقل لا يمنعها. والعلماء النفسانيون في عصرنا لا يتفقون على نفيها ونفي أمثالها، بل منهم من مارسوا "التلباثي" (التخاطب عن بعد)، وسجلوا مشاهداته، وهم ملحدون لا يؤمنون بدين..!!
عمر أمة وحده!!
قال له أبو بكر، وقد تولى الخلافة: اقض بين الناس فإني في شغل!
هو أول من وضع نظام الدواوين في دولة الإسلام، وهو النظام الذي يعنى بمصالح الناس وتوثيق المعاملات، وحفظ أسماء الجند، وهو أول من جعل نظاماً للعطاء: فجعل الرواتب الشهرية ورتب الناس على قدر سوابقهم وحاجتهم.
وعمر سن سنناً للقضاء صارت دستوراً: منها أن القاضي لا يحكم بعلمه، ولا يقبل هدية، ولا يعمل بالتجارة.
 وعمر مؤسس ديوان الوقف الخيري!
أنشأ عمر بيت الدقيق لإغاثة الجياع الذين لا يجدون الطعام وأصاب قبل خلافته أرضاً بخيبر، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فاستحسن له أن يحبس أصلها ويتصدق بريعها فجعلها عمر صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث، وينفق منها على الفقراء والغزاة.
عمر: المهندس النجيب!!!
لعمر -رضي الله عنه- فراسة لا تخيب!!
كان يعنى بالأسماء، ويتفاءل بحسنها..
وكان ينظر في وجوه الرجال، فيدرك ما أصاب النفوس والأجساد!!!
كان حريصاً على المسلمين، فيدفعه ذلك للسؤال عن أحوالهم/ فيوجه بما يصلح شأنهم.
جاءه بعض جند العراق.. فنظر في وجوههم.. فرأى فيهم هزالا.. وتغيراً في ألوانهم.. فسأل سعد بن أبي وقاص عن ذلك؟؟؟
قال سعد: وخومة المدائن.. ودجلة (سوء جو المنطقة وبيئتها).
ويرسل إليه: إن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان!!!
فابعث سليمان وحذيفة ليرتادوا منزلاً برياً بحرياً، ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر (تبنى هناك مدينة) وأمر أن تبلغ مناهج المدينة (طرقها) أربعين ذراعاً، وما يليها ثلاثين ذراعاً.. وما بين ذلك عشرين ذراعاً.. وأن لا تنقص الأزقة عن سبعة أذرع، ليس دونها شيء!.. وأن لا يرتفع بناء الدور.. فبنيت الكوفة على هذا التخطيط! فأي مهندس.. عمر؟!!
إيداع.. متفرد!!
يقول العقاد:" وندر في الدولة الإسلامية، من نظام، لم تكن له أولية فيه!!... فافتتح تاريخاً.. واستهل حضارة وأنشأ حكومة ورتب لها الدواوين، ونظم فيها أصول القضاء والإدارة، واتخذ لها بيت مال، ووصل بين أجزائها بالبريد، وحمى ثغورها بالمرابطين، وصنع كل شيء في الوقت الذي ينبغي أن يصنع فيه وعلى الوجه الذي يحسن به الابتداء "!!
امتياز العقيدة!!
يقول الفيلسوف (شبنجلر):" إن الأمم في نهوضها تعبر طريقين مختلفين: طريق العقيدة وقوة النفس، وتلازمه بساطة الظواهر وعظمة الضمائر، وطريق الفخامة المادية والوفرة العددية... وفيه تنحل الضمائر وتخلفها العظمة التي تقاس بالباع والذراع، وتقدر بالقنطار والدينار، وكانت قبل ذلك تقاس بما لا يحس من العزائم والأخلاق.وكانت أمة الإسلام، بحكم العقيدة، وسهولة الحياة ممن سلك الطريق الأول –لا شك– والفكرة ولسان الحال "!!
إنه عمر بن الخطاب!!
كتب محمد حسين هيكل عن عمر رائعته: الفاروق عمر..وكتب الشرقاوي: (الفاروق عمر).
وكتب الطنطاويان (علي وشقيقه): أخبار عمر..وكتب المسيحي القبطي نظمى لوقا: عمر بن الخطاب: البطل والمثل والرجل!!.. وكتب العقاد: عبقرية عمر.
وكتب كثيرون عن عمر، ولا تزال سيرته نبعاً ثراً وثرياً، لمن يريد أن يعطي الناس، من مسلمين ومن غيرهم نموذجاً في العدل والتنظيم والحرص على المال العام ورعاية شؤون المواطنين والنموذج الأكمل في الحاكم الصالح..!!
ولن نستطيع في هذه العجالة، إلا أن نعرض لمعا من نور عمر بن الخطاب، فأينما وليت وجهك في قراءة واسترجاع ما فعل عمر، وجدت النفس معجبة أيما إعجاب بعظمة هذه الشخصية المبدعة التي صدقت مع الله، ومع رسوله الكريم، ومع رسالة الإسلام والمسلمين.
ويكفيه قولُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -... شهادة لا تعدلها شهادة... عندما قال في عمر: لم أر عبقرياً يفري فريه!!!!

 
;