الوثائق
التاريخية تقول: إن أمة " اقرأ" لا تحرق ما تقرأ!!
دأبت المؤسسة الكنسية،
في حربها ضد الإسلام، على القيام بعمليات إسقاط لكل ما تعرضت له هي من مثالب، أو
لكل ما قامت به من هدم وتدمير لاقتلاع الآخر. ومن أشهر هذه الإسقاطات إلصاق تهمة
حرق مكتبة الإسكندرية القديمة، الذي تم في القرن الرابع الميلادي، إلى القائد عمرو
بن العاص؛ بناء على أمر من الخليفة عمر، أيام فتح مدينة الإسكندرية، في القرن
السابع!
وتقول الوثيقة الوحيدة
التي استندوا إليها، وهى بقلم ابن القفطي، في القرن الثالث عشر الميلادي، في كتابه
المعنون: «تأريخ الحكماء»: « إن الخليفة عمر قد
أصدر أوامره للقائد عمرو بن العاص قائلاً: «فيما يتعلق بالكتب التي ذكرتها، فإن
كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنًى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب
الله، فلا حاجة إليها، فتقدم بإعدامها. فشرع عمرو بن العاص في تفريقها على حمامات
الإسكندرية وإحراقها في مواقدها كوقود لتسخين المياه. وقد استغرق حرقها ستة أشهر
كاملة ».
ولن نتناول الآن
التعليق على هذه الفرية الواضحة، ونتركها لآخر هذا المبحث، لنعرض موضوع المكتبة
منذ بدايته، وكما تتناوله الوثائق الغربية المنصفة.
لم تكن الإسكندرية
آنذاك مجرد مدينة مزدهرة، وإنما كانت بمثابة حضارة مكتملة، بمعنى أنها كانت تضم
تلك الإنجازات التي يتركها عظام الرجال في مجتمع تتعدى أبعاده نطاق الجغرافيا.
فالنطاق التاريخي الواقع بين الفترة التي تم فيها تأسيس هذه المدينة على أيدي
الإسكندر الأكبر، سنة 332 ق.م. إلى الفترة التي تم فيها تدميرها على أيدي الأسقف
تيوفيلوس والقساوسة التابعين له ومن بعدهم، في القرن الرابع الميلادي، يعد بمثابة
حقبة زمانية متفردة في ازدهار علومها.
فقد كانت مدينة
الإسكندرية تمثل عالمًا بأسره، وأسلوب حياة فنية وفكرية وعلمية مترابطة الأركان.
ونطالع في موسوعة أونيفرساليس: «أن يكون المرء سكندريًّا لم يكن يعني أنه من
مواطني هذه المدينة فحسب، وإنما يعني الانتساب إلى قيم حضارية في عاصمة البطالمة،
خلفاء الإسكندر في مصر».. فقد كان لها أهمية كبرى أيام الرومان، وكان لها موقع خاص
وآثار تميزها.
بل أضفت عليها شهرتُها
العديدَ من المسميات، ومنها: الجميلة، شديدة الجمال، خالدة الذكرى، المَلَكية،
الشديدة البريق.. وكانت أكثر الصفات استخدامًا «الكبرى».. وقد ازدهرت بها علوم
الرياضيات والفلك والهندسة إلى جانب تألق المدارس الفكرية والفلسفية – وكلها
مجالات تواصلت اعتمادًا على ما كانت الحضارة المصرية القديمة قد وصلت إليه.
فمنذ بداية النصف الأول
من القرن الثالث قبل الميلاد، أيام بطليموس الأول، امتلأت الإسكندرية بالمباني
الرائعة، واكتمل شكلها المعماري الذي حافظت عليه حتى نهاية العصور القديمة،
بحدائقها الغناء ومبانيها اليونانية الطابع. وفي حي القصور، الذي كان يفترش ربع المدينة
تقريبًا، تم تشييد القصر الملكي على البحر، والمتحف والمكتبة الشهيرة، والسوما –
قبر الإسكندر الأكبر، والسيرابيوم، المعبد المقام للإله اليوناني المصري سيرابيس،
ومعبد إيزيس، والسوق، والمسرح. بينما الفنار المشيَّد على جزيرة فاروس يكمّل تلك
الروائع المعمارية.
وكان بطليموس الأول قد
أمر بتشييد «الميوزيوم»، أي قصر ربات الفنون، الإلاهات التسع الشقيقات المُلهمات
للغناء والشعر والفنون والعلوم والميثولوجيا الإغريقية، عام 288 ق.م. وكان يضم
جامعة، وأكاديمية علمية، والمكتبة الشهيرة التي كانت تحتوي على سبعمائة ألف مخطوطة.
وكان قد طلب من كل البلدان الشهيرة أن ترسل له أعمالاً لكافة المؤلفين وأمر
بترجمتها إلى اليونانية. كما كان يطلب من البواخر التي تتوقف بميناء الإسكندرية أن
تسمح بأن يتم نقل وترجمة ما تحمله من كتب .. فكانت النسخ تُعاد إلى البواخر، ويتم
الاحتفاظ بالأصل في مكتبة الإسكندرية.
وأصبح «الميوزيوم»
مركزًا علميًّا عالي المستوى، يؤمه كافة العلماء، حيث يجدون كل ما يحتاجون إليه.
وكانت عملية ترجمة كل هذه الأعمال إلى اليونانية تمثل
ومن أشهر من قام بإدارة
هذه المكتبة، الفلاسفة زينودوت الأفسوسى، وأرستوفان البيزنطي، وأريستارك
الثاموتراسى، وأبوللونيوس من رودس. وكان آخر من تولى إدارتها هو العالم ثيون (Théon)، والد عالمة الرياضيات والفليسوفة الشهيرة هيباثيا التي كانت
تدير مدرسة الأفلاطونية الجديدة بعد أفلوطين، وقام القساوسة بقتلها..
فقد رجمها القساوسة عام
415 بناء على أمر الأسقف سيريل، الذي جعلته الكنيسة قديسًا سنة 1882، وماتت بأبشع
طريقة انتقامًا منها ومن علمها. ويقول سقراط القسطنطينى (380 – 450) المؤرخ
المسيحي، الروماني الجنسية، والمتخصص في التاريخ الكنسي: «إن القساوسة انتهزوا
فرصة مرورها بعربتها وجرّوها عنوة وسحلوها، ثم أدخلوها الكنيسة ونزعوا عنها ثيابها
وضربوها بالهروات والأواني، ثم مزقوا جسدها، ووضعوا تلك الأجزاء في كيس وصعدوا بها
إلى «السينارون» وأحرقوها. مما أثار الإنتقادات ضد الأسقف سيريل وكنيسة
الإسكندرية، إذ كان الموقف في غاية الإحراج لمن يقولون: إنهم أتباع يسوع ويقومون
بتلك المجازر والاغتيالات.
وقد حدث ذلك في العام
الرابع من ولاية سيريل، والعام العاشر من حكم هونوريوس، والعام السادس من حكم
تيودوز، في شهر مارس أيام الصيام. (وارد في كتاب «التاريخ الكنسي»، ج7، ص 14،
ترجمة رومان تلميذ هيبوخانى)..
ويا له من احترام لشعائر
الدين الذي يفرضونه بالقتل والحرق!
وكانت المعارك بين
المسيحيين والوثنيين قد بدأت حتى من قبل أن يسمح لهم الإمبراطور قسطنطين، عام 313،
بممارسة مسيحيتهم مثل باقي العبادات في الدولة. وفي مطلع القرن الثالث كفّ تعليم
اللغة الهيروغليفية في مصر، واختفى علم التحنيط. ويبدو بكل أسف، كما نطالع في
موسوعة فيكيبديا، «أن دخول المسيحية مدينة الإسكندرية قد محى ذاكرة مصر تمامًا»
!..
ومع فرض المسيحية ديانة
رسمية ووحيدة للإمبراطورية الرومانية في عام 391 ميلادية، زادت المعارك بين الأسقف
أريوس والأسقف أطنازيوس، القريب من السلطة، حول طبيعة السيد المسيح. ووصل اضطهاد
الوثنيين إلى درجة غير مسبوقة. فقد تم هدم كافة المعابد والتماثيل في كل
الإمبراطورية، ومُنعت الطقوس الدينية الوثنية كلها بينما تزايد النفوذ المسيحى
بصورة كاسحة.
ويقول هنري مونييه في
كتابه عن مصر البطلمية: أيام قسطنطين، الذي حكم من 323 إلى 337، كان معبد
السيرابيوم في الإسكندرية في أوج تألقه كما كان يُعد قلعة العالم الهلليني. وقد
قرر قسطنطين وقف الاحتفالات الوثنية التي كانت تقام فيه؛ بسبب عداء الكهنة الشديد
للمسيحيين. بل لقد أغلق المعبد في يوليو 325م، وهو نفس العام الذي تم فيه تأليه
السيد المسيح. وبذلك بدأ أول هجوم على السيرابيوم، ذلك الهجوم الذي واصله تيوفيلوس
أسقف الإسكندرية بشراسة حتى أتى عليه.
فقد جعل ذلك الأسقف
مهمته الأساسية هي اقتلاع الوثنية من مصر، خاصة وأن الوثنيين كانوا لا يزالون
أقوياء في تلك الفترة ويهزءون من خصومهم. وكان السيرابيوم هو مكان تجمعهم مثلما
كان محراب عبادة سيرابيس منذ أيام البطالمة الأوائل. وتحول المعبد بعد ذلك ليصبح
مدرسة شهيرة تتواصل فيها تعاليم الأفلاطونية الحديثة بفضل هيباثيا التي طالعنا
مصيرها..
وما أن وصل قرار
الإمبراطور بإلغاء العبادة الوثنية حتى تزعم الأسقف تيوفيلوس القيام بإجراءات
استفزازية ضد الوثنيين، اندلعت على إثرها مظاهرة عارمة. « فما كان منه إلا أن تزعم
بنفسه عصابة من الرهبان المسيحيين - على حد وصف هنرى مونييه - واستولى على حصن
الإسكندرية العلمي، وقام بنفسه بتحطيم تمثال الإله سيرابيس، تحفة الفنان المبدع
برياكسيس، وجعل أتباعه يسيرون في المدينة بأجزائه المحطمة. وعانت باقي المعابد من
نفس المصير»..
« ولم يكن هدم
السيرابيوم إلا حلقة في سلسلة طويلة من الدمار الذي تمخضت عنه المسيحية في صراعها
الشرس ضد الوثنية »، ويواصل مونييه قائلاً: « إن هذا الحدث كان له أصداء واسعة؛
بسبب تزعُّم الأسقف تيوفيلوس له، ويقول العديد من المؤرخين: إنه افتعل هذه
المظاهرة بالتواطؤ مع إيفاجريوس، حاكم الإسكندرية الروماني، استنادًا إلى قرار
الإمبراطور تيودوز » (صفحة 37 ).
أما باقي المعابد التي
لم يتم هدمها فقد تم تحويلها إلى كنائس.
ومن الغريب أن هذا
الأسقف، تيوفيلوس السكندري، المتوفى عام 412، وكان من المدافعين بشدة عن تأليه
يسوع، والذي يحاول البعض تبرأته بإلصاق وحشية أفعاله التدميرية بالمسلمين، هناك
مخطوطة من القرن الخامس تصوِّره وهو يقف أعلى معبد السيرابيوم ومكتبة الإسكندرية
التي أحرقها! والصورة تمثله وهو ممسك بنسخة من الكتاب المقدس، ويقف منتصرًا على ما
دمره، ويُرى الإله سيرابيس داخل المعبد. ويوجد هذا الرسم على هامش حولية مسيحية
كُتبت في الإسكندرية في القرن الخامس الميلادي. أي أنه حتى ذلك الوقت كان معروفًا
وسائدًا أن الأسقف تيوفيلوس هو الذي دمر السيرابيوم ومكتبة الإسكندرية .. ورغمها
يواصل المحرِّفون فرياتهم!
والنبذة القصيرة التي
نطالعها في المجلد الرابع لفهرس موسوعة أونيفرساليس الفرنسية (1996) عن تيوفيلوس
السكندرى تقول: « تيوفيلوس، أسقف الإسكندرية من 384 إلى 412. وقد قام بدور من الدرجة
الأولى في السياسة المدنية والكنسية في عصره. فقد توصل، بالاتفاق مع الإمبراطور،
وبالقيام بالعديد من المعارك الدامية، إلى اقتلاع الوثنية من مصر، وذلك بهدم
المعابد الوثنية ( ومنها السيرابيوم، عام 391) وبإقامة المبانى المسيحية بدلاً
عنها.
إن الدور الذي لعبه في
المعركة المتعلقة بأوريجين، وموقفه من يوحنا كريزوستوم (أي الفم الذهبي، لفصاحة
لسانه)، جعل المؤرخون ينتقدونه بشدة. فبعد أن ظل لفترة من الوقت مؤيدًا لأتباع
أوريجين، تغيَّر موقفه فجأة، وقام بمهاجمة الرهبان التابعين لأوريجين في صحراء
وادي النطرون وإجبارهم على المنفى.
واضطرته هذه القسوة إلى
الذهاب للدفاع عن نفسه في القسطنطينية؛ حيث كان قد لجأ إليها قرابة خمسين راهبًا
كانوا فارّين منه. وقد وصل تيوفيلوس محاطًا بتسعة وعشرين أسقفًا مصريًّا، ونجح في
كسب معركته بفضل العديد من معارفه في البلاط الإمبراطوري، مطالبًا عام 403
باستدعاء يوحنا كريزوستوم للمثول أمام المجمع.
وأدت هذه الأحداث إلى
النفي النهائي ليوحنا عام 404. إلا أن البابا إينوست الأول قد اعترض بعد ذلك على
هذه الإدانة، دون أن يتمكن من تبرأة يوحنا، وقام بحرمان تيوفيلوس الذي كان قد نسج
هذه المؤامرة عن طريق وسائل عديمة الشرف» (صفحة 3593) .
وتكشف هذه النبذة، التي
أوردناها بكاملها، عن مدى عدم أمانة القائمين على تلك المسيحية، التي كانوا
ينسجونها عبر المكائد والمؤامرات، وكيفية الإطاحة لا بالخصوم الوثنيين فحسب، وإنما
بنفس القائمين معهم على ذلك الدين!!
ومن الوثائق الغربية
القديمة، يورد الباحث جي دفيتش في كتابه عن «حرب المخطوطات» أن المؤرخ اللاتينى
ليبانيوس Libanios أورد في كتابه المعنون « من أجل المعابد » ما يلي: « من أكثر
المندفعين حماسًا في حرب الجبابرة هذه، هم الرهبان الذين كانوا يجوبون المقاطعات
حاملين الهروات والروافع والشواكيش؛ ليقوموا بكسر التماثيل وهدم المذابح والمعابد
(...) وفي عام 391 قام تيوفيلوس أسقف الإسكندرية على رأس عدد من أتباعه المسيحيين
بغزو معبد السيرابيوم وهدمه بعد أن سرقوا ما به، ولم يتركوا إلا قاعدة المعبد
لضخامة أحجارها ».. (ترجمة رنيه فان لوي، بيزنطة، المجلد السابع، طبعة 1933).
وإضافة إلى قرار
الإمبراطور تيودوز الصادر عام 393م، والذي ينص على استكمال عملية اقتلاع الآخر،
قائلاً: «إننا نريد أن يتم هدم كافة المعابد والآثار الوثنية التي لا تزال قائمة،
ونأمر بأن يتم محو ذلك الدَّنَس بإقامة العلامة المبجلة للديانة المسيحية، وسنحكم
بالموت على كل من يخالف أمرنا، هذا عن طريق القضاة المتخصصين» (Cod. Théo. XVI, p.125 ) .
وإضافة إلى قرار تيودوز
هذا، هناك قرارات العديد من المجامع المسيحية التي تنص على مواصلة عملية الاقتلاع،
ومنها مجامع المدن الفرنسية التالية : آرل عام 573، ونانت عام 668، وروان عام 687،
وخاصة ما قام به الإمبراطور شارلمان الذي اقتلع ما بقي من وثنية بصورة وحشية حتى
وصفه المؤرخ آرثر كمب في كتابه المعنون: «مسيرة الجبابرة»، بأنه «قد مارس التبشير
بالقتل العرقي». وهو ما يوضح بأية وسائل تم فرض المسيحية في كل الأماكن التي
دخلتها..
وفى كتاب بعنوان « شمس
الله تشرق على الغرب » (1963)، تقول الباحثة الألمانية سيجريد هونكه (S. Hunke): « إن القرن الثالث يفتتح سلسلة من أعمال الهدم المنهجية؛ إذ قام
الأسقف المسيحي بإغلاق الموزيوم، وطرد كل المثقفين منه. وفي عام 366، تحت حكم
الإمبراطور البيزنطي فالنس، تم تحويل السيزاريوم إلى كنيسة، وحرق مكتبته بعد
نهبها، ومطاردة فلاسفتها بتهمة ممارسة السحر.
وفي عام 391 طلب الأسقف
تيوفيلوس من الإمبراطور تيودوز الموافقة على هدم مركز حج القدماء، وآخر قلعة علم
باقية، السيرابيوم، والقيام بحرق مكتبته. وبذلك ضاع من الإنسانية إلى الأبد كنز لا
يمكن تعويضه » (صفحة 217).
وتواصل الباحثة بعد ذلك
قائلة: « إلا أن أعمال الهدم التي يقوم بها المسيحيون المتعصبون لم تتوقف عند
ذلك. إذ إن صديق الأسقف سيفيريوس من إنطاكيا يعترف بلا خجل أنه والأسقف قد كانا في
شبابهما أعضاء في جمعية مسيحية شديدة النشاط في الإسكندرية في القرن الخامس، وقاما
هما الاثنان بمعارك شرسة ضد المثقفين الوثنيين، وهاجموا معابدهم وقاموا بتكسير
تماثيلها وكل منشآتها. وبذلك اختفت معالم الثقافة الهللينية الواحدة تلو الأخرى.. وفي
عام 529م تم إغلاق آخر مدرسة للفلسفة في آثينا، وفي عام 600 تم حرق المكتبة
المسماه «الإمبراطورية» التي أسسها أغسطس في روما. وتم منع قراءة الأعمال
الكلاسيكية ودراسة الرياضيات، وهدم المتبقي من أبنية العبادات القديمة » (صفحة
218).
أي إن عمليات الهدم
والحرق في محاولة دءوبة لاقتلاع الآخر من جذوره لم تتم في مدينة الإسكندرية وحدها،
وإنما تواصلت في كل البلدان التي امتدت إليها المسيحية..
وتوضح سيجريد هونكه في
نفس الصفحة قائلة: «وعندما دخل العرب مدينة الإسكندرية عام 640، لم يكن بها آية
مكتبة عامة.
أما حريق المكتبة
الكبرى الإسكندرية، والذي تم إلصاقه بعد خمسة قرون بالقائد عمرو، فالعديد من
الأبحاث الدقيقة سمحت بتأكيد أن هذه مجرد فرية، ويا لها من فرية حقيرة.. وكم كانت
سعادة من افتروها؛ لاتهام «البرابرة» !
والعكس هو الصحيح، ففي
مسيرته الفاتحة المنتصرة، قدم فاتح الإسكندرية العديد من النماذج على عظمة التسامح
لديه، فقد منع القيام بنهب وهدم المدن، ثم، ويا لعظمة وغرابة ما أقدم عليه: فقد
سمح لرعاياه الجدد بممارسة عبادتهم التقليدية » .. أي إن المسلمين لم يقوموا بأية
عملية لاقتلاع الآخر، وسمحوا للمسيحيين واليهود بممارسة عباداتهم!
ويقول الفونس دان (A. Dain) في كتابه المعنون «المخطوطات» (1980): « يقال عادة: إن جنود
الخليفة عمر أحرقوا معبد السيرابيوم، وما كان يضمه من مكتبة شهيرة في هذه المدينة.
وقد صدّقت تلك المقولة أنا شخصيًّا، إلا أنه يجب عليّ أن أعترف بخطئي، إذ ما إن
رحت أتبين الأمر حتى وجدت أن من قام فعلاً بحرق مكتبة الإسكندرية هم مسيحيو الأسقف
تيوفيلوس.
وهنا لا بد من توضيح
أنه كان بالإسكندرية مكتبتين : مكتبة البروخيون، وكانت في وسط المدينة، وقد هدمها
أورليان سنة 273 حينما استولى على المدينة، ومكتبة السيرابيوم، التي هدمها الأسقف
تيوفيلوس عام 391.
ويقول القس أوروز، مؤلف
«كتب ضد الوثنيين » عام 417، أنه عند مروره بالإسكندرية رأى «دواليب الكتب التي
أفرغها رجالنا من محتوياتها » ( الكتاب السادس، الفصل الخامس عشر).
وهذه الملاحظة سابقة
على الفتح الإسلامي الذي حدث في منتصف القرن السابع» ( صفحة 189 ).
وما يؤكد أن الحرق
والتدمير كان من عادة المسيحيين ووسيلتهم في فرض عقيدتهم، القرار الذي أصدره
تيودوز الثاني، والذي ينص على: «حرق كل ما كتبه بورفير أو غيره ضد عبادة المسيحيين
المقدسة لكى لا تقوم هذه الأعمال بإغضاب الرب»، وارد في وثيقة :(Codex Theodosianus XVI,6,66 ). كما قام البابا جريجوار الأكبر(590 – 604 ) بحرق المكتبة
المعروفة باسم «الإمبراطورية» في روما.
لذلك يقول جى دفيتش:
«لقد تم تنصير التاريخ بالتدريج بخطوات متتالية منذ القرن الثاني، وتواصلت عمليات
الهدم والحرق والإبادة ليبدأ ما أُطلق عليه «العصر الأسود» الذي امتد ألف عام»،
ويقصد عصر الظلمات الذي شاهد محاكم التفتيش، والحروب الصليبية، والحروب الدينية،
وتحريم العلم ومحاربة العلماء– وهو ما يتمشى قطعًا مع نفس منهج حرق المكتبات
وتدمير المعابد!
وكذلك تم حرق كل
الأعمال التي كانت تتضمن الصراعات اللاهوتية مثل أعمال سيلسيوس وبورفير، وحاكم بيت
عانية، والإمبراطور جوليان، وما بقي منها فهو معروف من الأجزاء المذكورة كاستشهاد
في الرد عليها!
وقد أورد المؤرخ إدوارد
جيبون: «أن من حرق مكتبة الإسكندرية هو الأسقف تيوفيلوس، العدو اللدود للسلام
والفضيلة، ذلك الجريء الشرير ذو الأيادى الملطخة بالدماء والذهب على التوالي،
وهادم السيرابيوم» (قفول وسقوط الإمبراطورية الرومانية، الفصل 28).
وفي أواخر القرن الرابع
وصل اضطهاد الوثنيين إلى ذروته، فقد تم هدم معظم المعابد، كما قد تم حرق وهدم باقي
المكتبات الخاصة، وتمت محاربة العلوم والرياضيات والفلسفة، وتم إغلاق المدارس
الفكرية؛ ليبدأ عصر اضمحلال رهيب في مدينة اشتهر صيتها عبر العالم القديم كمنارة
للعلم والتقدم.. فممن عملوا في مكتبتها الشهيرة، ونهل من دررها لمدة عشرين عامًا،
المؤرخ استرابون وغيره..
أما عن ذلك النص العربى
المزعوم، فأول ما نبدأ به هو رأي المؤرخ إدوارد جيبون، في نفس مرجعه السابق الذكر،
حيث يقول: « إن قرار الخليفة عمر يتناقض مع المبادئ الأصلية والسلمية لعلماء
المسلمين، الذين يرفضون قطعًا حرق أية نصوص دينية يهودية أو مسيحية تم الاستيلاء
عليها في المعارك الحربية ».. وهذا مجرد تعليق منطقي واحد، يتمشى مع كل ما يقوله
الأمناء من علماء الغرب المسيحي عن أخلاقيات المسلمين وتصرفاتهم في البلدان التي
حكموها.
وإذا ما نظرنا فيمن قال
هذه المعلومة، وهو جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف القفطي ( 568هـ /1172م ـ
646هـ /1248م)، لوجدنا في موقع « المكتبة الوطنية لعلم الطب » في مدينة أوكسفورد
البريطانية: « أن له 26 مؤلفًا، لم يبق منها سوى اثنين، إحدهما « تأريخ الحكماء »
الوارد فيه هذا النص، غير أن هذا الكتاب ليس النص الأصلي وإنما تلخيص له بقلم
الزَوْزَني. والكتاب يضم 414 سيرة ذاتية مختصرة لأطباء وفلاسفة وعلماء فلك، إضافة
إلى العديد من الاستشهادات المأخوذة عن كتّاب يونانيين لم يحتفظ بها في الكتاب
الأصلي »!
وتحتفظ المكتبة الوطنية
لعلم الطب بنسخة منه تحت رقم ( Ms
A 72 ). وقد قام بترجمته إلى
الألمانية وطبعه العالم يوليوس ليبّرت في مدينة لايبزيج سنة 1903م.
وبعد خمس سنوات، أي في
عام 1908، طبع لأول مرة بالعربية على نفقة أحمد ناجي الجمالي، ومحمد أمين الخانجي
وأخيه، بعنوان «تأريخ الحكماء»، وهو مختصر الزَوْزَني المسمى بالمنتخبات الملتقطات
من كتاب «إخبار العلماء بأخبار الحكماء»، وقد تمت مراجعته على كتاب ليبرت.
أما السياق الذي أتى
فيه هذا الاستشهاد فلا يقل افتراءً في مغزاه من الفرية نفسها؛ إذ يقول النص: إن
الأسقف يحيى النحوي قد طلب من عمرو بن العاص أن يعطيه الكتب التي في المكتبة
قائلاً: « قد أوقعت الحوطة عليها ونحن محتاجون إليها ولا نفع لكم بها »!
أي إن الأسقف وأعوانه،
والغارق معهم في الصراعات الدينية حول التثليث، وفقًا لما هو وارد في نفس صفحة
القفطي، هم يقدِّرون العلم وبحاجة إلى الكتب لصونها من الضياع، وأما المسلمون
الجهلاء فقاموا بتدميرها!!
ومن الواضح أن النص
المزعوم الوارد في كتاب القفطي كان عبارة عن استشهاد من الاستشهادات المنقولة عن
أحد اليونانيين المسيحيين، الذين يعنيهم تبرأة بني جلدتهم من كل ما اقترفوه من
حرائق وتدمير واقتلاع لتراث حضارة بأسرها. خاصة وأن الفترة التي كان فيها ابن
القفطي على قيد الحياة أو حتى السنة التي تم فيها عمل نسخة من ذلك الكتاب بعد
وفاته بعام، بقلم الزَوْزَني، تقع في قلب فترة الحروب الصليبية بكل ما واكبها من محاولات
للنيل من الإسلام والمسلمين..
وإذا ما نظرنا من
الناحية الدينية الإسلامية، لأدركنا لا معقولية هذه الفرية، فقد بدأ تنزيل كتاب
الله العزيز بفعل أمر، وهو : « اقرأ »، كما أن ثانى سورة أُنزلت هي سورة «القلم»
.. أي أن أولى خطوات الرسالة الإسلامية بدأت بالحث على القراءة والكتابة، على
دراسة الكتاب المسطور والكتاب المنظور في رحابة الكون على اتساعه..
فكيف يمكن لعاقل أن
يعقل فرية أن يقوم سيدنا عمر، وهو من صاحَبَ رسولنا الكريم، صلوات الله عليه، بأن
يتفوه بمثل هذا الجُرم، لا في حق العلم والعلماء فحسب، ولكن في حق الدين الذي عاصر
نشأته، وواكب أولى خطواته، وعمل على انتشاره ؟!