« أيها
السادة نحن في حاجة إلى إحياء هذه النخوة»
النخوة والإباء،
والعاطفة الجامحة، والحمية المشتعلة، والغيرة الدافقة، وأمثالها من الصفات
المتقاربة التي كانت من ميراث العرب، كالصفات الأخرى الكثيرة، مثل الشجاعة
والمروءة والفخر والرجولة، وقري الضيف وما إليها؛ وكانت كلما ذكرت تبادر الذهن
عفوا العرب كأنه كانت لا توجد إلا فيهم.
إن حياة العرب - كما
جاء في كتب السيرة النبوية - زاخرة بمواقف النخوة والإباء والحمية ، ولم يعرف
التاريخ أشد احتفاظا بالخصائص والعادات والتقاليد من العرب، ومن المواقف المستطرفة
المعروفة في هذا الباب عندما اهتزت ضمير هشام بن عمرو ابن ربيعة العامري الذي أنكر
مقاطعته لبني هاشم وحصارهم في الشعب وكان من قبل قد تورط في التعاقد عليه منفعلا
بعاطفة الجماعة وغريزة القطيع. وقد دأب طول مدة الحصار، على أن يصلهم. فكان يأتي
ليلا بالبعير قد أوقره طعاما أو ثيابا، حتى إذا بلغ به مدخل الشعب خلع خطامه من
رأسه وضربه على جنبه، فيدخل البعير الشعب على من فيه، بما يحمل.
فلما طال عليهم جهد
الحصار، أجمع هشام بن عمرو وزهير بن أمية ومعه أربعة من قريش هم والمطعم بن عدي
وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود، فشقوا صحيفة هذه المقاطعة وأعلنوا نقضها، فلما
أصبحوا وغدت قريش إلى أنديتها، غدا (زهير) عليه حلة، فطاف بالبيت العتيق سبعا ثم
أقبل على الناس فقال:" يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى
لا يباع لهم ولا يبتاع منهم ؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة
".
صاح أبو جهل بن هشام،
وكان في ناحية من البيت الحرام:" كذبت، والله لا تشق ".
فرد عليه زمعة بن
الاسود:" أنت والله أكذب، ما رضينا كتابها حيث كتبت !" وثنى أبوالبختري:"صدق
زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقره ".
وأيدهما مطعم بن عدى:"
صدقتما، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها ".
وتكلم هشام بن عمرو،
فقال نحو ما قالوا.
وبهت أبو جهل، والأصوات
تأتيه من كل ناحية بالتكذيب والرفض، فنقل بصره حائرا بين هؤلاء الرجال الخمسة، ثم
لم يجد في أخذة المباغتة بموقفهم سوى أن يقول:" هذا أمر قضي فيه بليل، تشوور
فيه بغير هذا المكان ".
لم يلقوا إليه بالا،
وقام المطعم على مرأى من الجمع، وأبو طالب هناك قد انتحى ناحية من المسجد - فانتزع
الصحيفة من مكانها في جوف الكعبة ليشقها، فإذا بالارضة قد أكلتها وأتلفتها، لم تدع
منها إلا كلمة: (باسمك اللهم) !.
وحينئذٍ خرج بنو هاشم
وبنو المطلب من هذا السجن الضيق المميت إلى معترك الحياة، ضاربين في الإخلاص لمحمد
-صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثال، محتملين من التضحية ما ينوء بالأبطال.
كان العرب بفضل هذه
النخوة والغيرة والإباء والحمية، يعيشون متسامين عن كل معاني الخزي والعار، بعيدين
كل البعد عن معاني الاحتواء والتبعية ومحاولات التطويق والتطويع وهدم الذاتية.
وجاء الإسلام فلم يقض
على هذه النخوة والحمية والإباء وما إليها من المعاني النبيلة، بل سخرها في خدمة
الرسالة الإلهية وفي صالح البشرية جمعاء، واستغلها في تدعيم الدعوة الإسلامية
وزيادة مفعولها.
وأكبر خسارتنا اليوم
هي في تجريدنا عن هذه المعنويات وامتصاص حميتنا وغيرتنا، من خلال مخطط مبيت شامل
لنزعنا من أحضان عقيدتنا، وجعلنا بحيث تخطفنا الطير أو تهوي بنا الريح في نكان
سحقيق، وصرنا لا يهزنا " تأديب " ونلدغ من الجحر الواحد مرات لا تحصى
ولا تعد.
والنفوذ الأجنبي -
بتعدد أجناسه وأشكاله وأوطانه – قد نصب – من أجل الاستمرار في القضاء على البقية
الباقية من معنوياتنا – فخه في داخل صفوفنا بالإضافة إلى إلى الضربات الموفقة من
الجبهات الخارجية التي استطاعت تمزيق الجيش العراقي ومن بعده الجيش الليبي والآن
مع الجيش السوري. وحتى هذه اللحظة فشلت كل مخططات الغرب في القضاء على الجيش
المصري أو جره إلى مثل هذا المستنقع الدامي، وكان ذلك بعناية الله أولا وأخير ثم
بوقوف الشعب المصري وراء جيشه ثم بوقوف قيادات عربية حكيمة مثل السعودية والإمارات
والكويت والبحرين والأردن فقطعت كل شباك الفخ الغربي للجيش المصري زاده الله عزة
وقوة ومنعة.
ألم ينتبه القادة
العرب – حفظهم الله – بأنهم عندما استخدموا ما لديهم من مصادر القوة التي توفرها
لهم الطاقة والتفوق البشري كان ذلك ضمانا كافيا لانتصار الجيش المصري في حرب
1973م، وفي هذه الفترة الحاسمة في التاريخ المصري عندما قالوا للغرب - في صوت واحد
-:" لا للتدخل في الشأن المصري" توقف كل شيء واستقلت مصر بشئونها الداخلية.
نحن في هذه المرحلة
الحاسمة الخطيرة، والحاسمة الفاصلة بأمس الحاجة إلى إحياء هذه النخوة والإباء؛
لأنه:
متى
تجمع القلب الذكي وصارما وأنفا حميا
تجتنبك المظالم
وذلك بالعودة إلى
الإسلام الذي يأبى لأبنائه جميع معاني الذل والخزي والعار، ويربي فيهم معاني الحمية
والإباء والغيرة على أصدق صورها.
د/عبدالوهاب القرش
دكتوراه في العلوم الإسلامية
دكتوراه في العلوم الإسلامية