الشورى..لغةً وتاريخ
لعل مما يميز اللغة
العربية عن غيرها من اللغات، أصالة مصطلحاتها ،ومرونتها الرائعة التي تنمو بها
مفرداتها، وتتطور بها تعابيرها، تبعا لتطور أهلها واتساع تجاربهم، وتنوع حياتهم
الاجتماعية، ونشاطهم المادي والمعنوي والروحي، ثم تثبيت بعض هذه المفردات بواسطة
الوحي مصطلحات دينية لا تُضاهى .
نلحظ هذه الظاهرة عند تتبعنا لنشأة كثير من
المصطلحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتشريعية والعسكرية وغيرها .
فالشورى كلمة يضرب
معناها في أعماق النفس البشرية منذ خُلق الإنسان اجتماعيا بطبعه، محتاجا إلى غيره
من أجل التشاور والتفاهم وتبادل الرأي والنصح والتجربة والمنفعة . والتي يضرب
مبناها ـ لفظها ـ بجذوره في تاريخ الإنسان العربي منذ نشأته بدائيا بسيطا عفويا، إلى
أن بلغ مرحلة النضج العقلي والرشد الاجتماعي، والتفكير المنطقي، والتعبير الفني
تصريحا وتلميحا، حقيقـة ومجازا، ثم إلى أن نزل الوحي فثبت اللفظ ـ الشورى ـ مصطلحا
سياسيا واجتماعيا واقتصاديا في قوله تعالى :(وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38).
والمتتبع لنشأة هذه
الكلمة وتطور مدلولها، يلحظ أولا قرابةً لها بلفظ "الشوار" الذي هو
الحُسن والجمال والهيئة، سواء في الإنسان أو متاع البيت ؛ كما أن لها أصلا مشتركا
مع لفظ "الشور" الذي اشتق منه فعل "شار، يشور" العسل، إذا
استخرجه من مصدره، ثم أطلق لفظ المشار على مصدر العسل، أي الخلية أو الوَقْبَة أو
الجُبْحُ .
ونظراً لأهمية العسل
في حياة العربي وقيمته الغذائية ونُدْرته، اشتق من هذا اللفظ كلمة
"أشار" بمعنى أَوْمَأَ بيده، أو عينه، أو حاجبه، وكأنما العسل هو أهم ما
يستحق الإيماءَ والإشارة .
ثم نُقلت الكلمة
بالتدريج وعلى مراحل من معناها المادي ـ استخراج شيء مادي هو العسل، من شيء مادي
هو الخلية ـ إلى معنى تجريدي راق هو استخراج الرأي الصائب والفكرة الصالحة، والهدي
النافع من عقول الناس وتجاربهم وتصوراتهم، وكأنّما العقول خلايا نحل، وكأنما
آراؤهم عسل يُستخرج منها للغذاء والاستشفاء .
وبذلك عرفت اللغة العربية
كلمات جديدة، مثل : أشار عليه، شاوره، استشاره،
مَشُورة، مَشْورة، شورى، وكلها تدل على تبادل الرأي والنصح والإرشاد
والاسترشاد، والهداية والاستهداء ؛ حتى إن العربي الموغل في بداوته عرف بفطرته
ولغة قومه هذه المعاني الجليلة فذهب إليها، والتزم بها دون تعقيد أو جدل أو فلسفة
؛ وقد دعا أحد الخلفاء واحداً من بني عبس وسأله عن سر انتصاراتهم فقال الأعرابي :
" نحن ألف رجل بألف رأي ".
ولا يذهب بنا القول
إلى ادعاء أن الشورى ـ مبنى ومعنى ـ من خصائص العربي واللغة العربية، ولكن من
المؤكد أن العربية تكاد تكون اللغة الوحيدة، التي نمت فيها هذه اللفظة ـ شورى ـ
نمواً طبيعيا، ضاربا في أعماقها التاريخية والاجتماعية والثقافية، فاكتسبت بهذه
الأبعاد العميقة مرونة وشمولية أداء، تَنْدُران في اللغات الأخرى التي انتحلت
لمعانيها كلمات لم تستطع أن تستوعب مداليلها المادية والمعنوية والنفسية والروحية
والاجتماعية .
ثم جاء الوحي والسنة
النبوية المطهرة فرفعا هذا اللفظ ـ شورى ـ إلى صعيد مصطلح ديني ودنيوي، يتعذر على
المرء الاستغناء عنه بلفظ آخر عربي أو دخيل، مهما تكلف واحتال وتَمَحَّلَ . ثم كان
التطبيق النبوي الذي بلوره نظاما سياسيا يجعل أمر الأمة بيدها، تتخذه قرارا، وتصدره
للسلطة التنفيذية ملزماً .
واستمر الحال على هذا
المنهاج إلى أن تم الانقلاب عليه بالقضاء على الخلافة الراشدة ؛ فأنشأ الحكام
المتسلطون حركات ثقافية للتعتيم على المفاهيم السياسية الإسلاميـة وتمويهها، بما يبرر
انفرادهم بالسلطة ؛ ولم يتورعوا في حركتهم هذه عن وضع الأحاديث الكاذبة، وتفسير
بعض آيات القرآن الكريم بغير معناها ،كما هو الشأن في الحديث الموضوع الذي
يجعل الحاكم ظلا لله في الأرض، وفي تفسير
قوله تعالى :(إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً))البقرة:30)، بأن فسقة الحكام وفجارهـم وكفارهم
خلفاء لله سبحانه ـ تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا ـ .
فمهّدت هذه الشروح
لنشوء أنظمة حكم استبدادية ظالمة سلبت الأمة أهم حقوقها الإنسانية والسياسية
والاجتماعية والاقتصادية، واحتكرتها بيد الحكام وبطانتهم من الوزراء والمستشارين، والكتبة،
والغلمان والجواري والخدم وعلماء السوء، والمماليك ؛ فتحولت القصور والمؤسسات بذلك
إلى حلبات لصراع الأهواء والمصالح الشخصية والنفــوذ الأجنبي، والأمة الإسلامية
إلى سوق للرقيق بيد نخاس، يسومها سوء العذاب، يذبح أبناءها، ويستحيي نساءها، ويبدد
أموالها، ويتاجر بأعراضها .
بدأت مسيرة الفطرة
البشرية في اختيارها الحر، وتحمل مسؤولية اختيارها، من موقفين ضاربين في أعماق
الغيب، في الملإ الأعلى، ذكرهما الوحي في آيتين كريمتين، أولاهما:(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا
وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (الأحزاب: 72) . وثانيتهما: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ
ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا
كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ) (الأعراف: 172).
ثم أطلعنا ـ برحمته ـ
على مشهد حواره مع الملائكة عند خلقه آدم عليه السلام تعليما لنا وتربية وترشيداً
في قوله سبحانه وتعالى :( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ
نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30).
ثم لم يترك سبحانه
وتعالى الناس فوضى في هذا المضمار، وإنما هداهم بواسطة الرسل عليهم الصلاة والسلام
إلى منهج الشورى وطرائقها . وكما أعطانا المثل في حواره مع الملائكة، ضرب لنا
المثل باستشارته الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر أمته، تطييبا لخاطره وتعليما
لنا ـ وهو سبحانه غني عن ذلك ـ فيما رواه حذيفة قال: غاب عنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوما، فلم يخرج حتى ظننا أنه لن يخرج، فلما خرج سجد سجدة فظننا أن نفسه
قد قبضت منها، فلما رفع رأسه قال :" إن ربي تبارك وتعالى استشارني في أمتي :
ماذا أفعل بهم ؟ فقلت : ما شئت أي رب، هم خلقك وعبادك . فاستشارني الثانية، فقلت
لـه كذلك، فقال : لا أحزنك في أمتك، وبشرني... " .
واستمر التدرج بهم
إلى أن بلغ مبلغ الكمال الممكن للتجمع البشري، الذي وضعت أسسه سورة الشورى، والسنة
القولية والفعلية والتقريرية للرسول صلى الله عليه وسلم .
وعلى رغم تأرجح
المسيرة البشرية في الأرض بين الكفر والإيمان، فإنها فى فترات ضلالها وكفرها بقيت
متشبثة ببعض معالم الشورى، ولكنها كانت تطبقها بغير إطارها الإيماني، وبأساليب
خاضعة ـ في غالب الأحيان ـ لأهواء الملوك والأباطرة، وجَنَتْ منها بعض الخير الذي
يناسب مقدار التطبيق ومنهجه ؛ من ذلك بلقيس التي استشارت ملأها ـ مجلس شوراها ـ
عندما ألقي إليها كتاب سليمـان عليه السلام : (قَالَتْ يَاأَيُّهَا المَلَأُ
إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ
بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي
مُسْلِمِينَ قَالَتْ يَاأَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ
قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِي قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا
بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالَتْ إِنَّ
الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا
أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ
فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) (النمل: 29 - 35).
ومن ذلك استشارة عزيز
مصر ملأه حول تأويل رؤياه :(يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ
كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ
بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا
وَاِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي) (يوسف: 43 - 45) .
ومن ذلك استشارة
فرعون ملأه ـ على طغيانه وتألهه ـ في أمر
موسى عليه السلام :( قَالَ لِلْمَلَإِ
حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ
أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ
فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) (الشعراء: 34 -
36).
ومن ذلك نجاشي الحبشة
الذي اتخذ مجلسا للشورى، وعندما وفد إليه بعث قريش المكون من أشد القرشيين دهاء
وحنكة ـ عبد الله بن أبى ربيعة، وعمرو بن العاص ـ للمطالبة بإعادة المسلمين
المهاجرين إلى الكفار، محملاً برشاوى ثمينة لكل البطارقة وأعضاء مجلس الشورى، كاد
ينجح في مسعاه، لولا أن النجاشي تترس بضوابط الإيمان والأخلاق، فرفض آراء البطارقة،
وأمر برد رشاوى وفد قريش . قالت أم سلمة رضي الله عنها التي روت الخبر : " فخرجا ـ عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو
بن العاص ـ من عنده ـ أي النجاشي ـ مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به، وأقمنا
عنده ـ أي عند النجاشي ـ بخير دار مع خير جار " .
لقد كان لتشبث
النجاشي بالإيمان والقيم والأخلاق، الأثر البالغ في حماية المسلمين المهاجرين، وفي
إحباط كَيْدِ مستشاريه المرتشين، وهذا يؤكد قاعدة عتيدة في الاجتماع البشري
المتحضر، هي أن أي نظام سياسي لا تهيمن القيم والمبادئ على سلوك قادته، ولا يضبطه ضابط الصدق
والشفافية ينحط إلى الحضيض، ويرتكس في حَمْأَة الخزي واللؤم والفساد، والظلم
والنذالة، على رغم ما يمكن أن يكون لديه من ظروف مواتية، وقدرات كافية، وشعارات
براقة مرفوعة، وأهداف لماعة منتحلة ؛ لأنه يسقط في التناقض بين القول والفعل، مهما
كابر وادعى . والأمثلة على ذلك كثيرة من حال الأمة الإسلامية المعاصرة التي تتبادل
أكثر دولها ـ علمانية ودينية، تقدمية ورجعية ـ اللاجئين إليها كما تتبادل الخراف
والبضاعة، بل يبلغ ببعضها الانحطاط والخسة إلى تسليم مواطنيها للأجنبي، وترتكس في
الظلم والعسف ارتكاسا يجعل بعض رعاياها يفتقدون الأمن في أغلب بلدان المسلمين بسبب
مواثيق التسليم وعقود التعاون الاستخباري، فيضطرون للّجوء إلى الكيان الصهيوني، وأمم الغرب
المسيحي .
وبذلك تفكك المجتمع
المسلم وتمزق طوائف متناحرة، وحلت بدوله الهزائم في كل ميادين الإصلاح والدفاع، وأصبح
حكامه عبيداً أذلة لكل أمة يتوهمون قدرتها على حمايتهم ومساعدتهم على البقاء. مما
يوضح قاعدة أساسية في الاجتماع البشري هي أن الغلبة والنصر والتمكين والقوة لا
تتحقق لأي دولة إلا بمقدار ما يتوفر فيها من مبادئ الشورى وضعية كانت أو إيمانية .
ويؤكد هذا واقع الدول الغالبة في هذا العصر، التي وفرت لشعوبها حداً أدنى من
الكرامة والعدل بممارسة نوع من الشورى الوضعية الشكلية، وحال دول الظلم والاستبداد
في بلاد المسلمين المنهزمة أمام مجوس
الهند، ويهود الشتات، ونصارى الغرب، وعباد الوثن في إفريقيا، و"المتعنترة"
على الأطفال والنساء والشيوخ والعراة والجياع والمرضى من مواطنيها .
ولهذا أنزل الله
سبحانه وتعالى تشريع الشورى، جزءاً من آية واحدة، تشتمل بسياقها القَبْلِي
والبَعْدي على أهم مبادئ الإيمان، والعدل، والأخلاق، والعبادة، يتلقاها المؤمن
فيجد فيها توجيها ربانيا نحو مجتمع متكامل تمثل فيه الشورى جزءاً من كلّ ؛ فقال
تبارك وتعالى :( فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ
وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ
وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ
لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنْ
انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا
السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ
إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (الشورى: 36 – 43 ).
والآيات القرآنية
الكريمة هذه، اشتملت على صفات المجتمع الشوروي، بزهده في زخرف الحياة وطهارته من
الفواحش، وتوكّله على الله وحده، وتغافره لأخطاء أعضائه، وتكافله في ميدان التخطيط
والتقرير والتنفيذ والإنفاق، وحل الخلافات قصاصا وتعويضا وتعافيا ودفعا للظلم .
فإذا تم تطبيق هذه المبادئ قام المجتمع الإسلامي
الرشيد عدلا ورحمة ومحبة ونماء ورخاء، وأمنا
من الجوع والظلم والفساد والعسف ومصادرة الحريات، حريات الفكر والرأي والاعتقاد
والعمل والكسب .
ثم إن الوحي عندما
أسس نظام الاجتماع الشوروي وضع له ضوابط وشروطا للنجاح، لا تخل بطبيعته المرنة ؛
فقيّده بوجوب اجتناب الطاغوت ـ وهو كل مجاوزة للحد، هوىً أو مصلحة ذاتية، أو
سلطانا ـ، وباتباع كل حسن من القول نصحا أو رأياً، أو أمراً بالمعروف أو نهياً عن
المنكر، فقال تبارك وتعالى :(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ
يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ
الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) (الزمر:17 – 18) ؛ وبذلك أضفت الآية الكريمة على مفهوم الشورى
بُعداً آخر هو استماع الأقوال والمقترحات والاستفادة منها، وهو ما وضحه علي بن أبي
طالب رضي الله عنه عندما وجه الخطاب إلى ابنه محمد بن الحنفية قائلا : " اضمم
آراء الرجال بعضها إلى بعض، ثم اختر أقربها إلى الصواب، وأبعدها عن الارتياب، قد
خاطر بنفسه من استغنى برأيه، ومن استقبل
وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ " .
كما عولج الموضوع
نفسه بثلاث آيات أخريات تضبط الممارسة وتضمن لها التجرد والموضوعية وسلامة القصد و
وحدة الصف، ففي قوله تعالى :(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ
كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران: 159) يحث الوحي على
الرفق واللين، المؤديين إلى جمع الشمل، و وحدة الصف، وعلى العفو والتعافي وسلامة
القلوب من البغضاء والحقد والخيانة، وكلها أمراض تعوق ممارسة الشورى على أساس متين،
وقد وردت هذه الآية في سياق إشارته تعالى إلى الذين تولوا يوم أحد، وبيــان أسباب
توليهــم وعفـوه عنهم :(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا
وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)(آل عمران: 155).
وفي قوله تعالى : (
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ
وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة:8) يبين تبارك وتعالى أن التباغض والتنافر من
عوائق العدل الذي هو الثمرة الطبيعية للشورى
وأداء الشهادة، وأن على المجتمع المسلم أن يطهر صفه من هذه العوائق وفي قوله سبحانه : (وَإِذَا قُلْتُمْ
فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (الأنعام: 152) يبـين الوحي عائقا آخر من
عوائق ممارسة الشورى على وجهها السليم، هو عائق القرابة والولاء العائلي أو القبلي
أو الطائفي أو الحزبي، ويحث على التجرد، وتسخير الشورى لمصلحة الأمة كاملة، لا
لطائفة أو حزب أو عائلة أو شخص ...
ثم تأتي السنة
النبوية فتزيد أمر التجرد وضوحاً بإشارتها إلى تأثير الحاجة في ممارسة الشورى،
وضرورة تحرر ممارسيها من مظاهر ضعفهم وأهوائهم، فقال صلى الله عليه وسلم فيما
أخرجه أبو داود: " بل ائتمروا
بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي
رأي برأيه، فعليك ـ يعني نفسك ـ "… الحديث " وقال أيضا صلى الله عليه
وسلم: " تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يعط
سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش" …الحديث " . وجاء في الأثر :"
لا تشاور بخيلا في صلة، ولا جبانا في حرب، ولا شابا في جارية " . وهذا ما
تشير إليه الآية القرآنية :( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ
هُدًى مِنْ اللَّهِ) (القصص: 50 ) .
ذلك لأن الشورى إذا
تحكم فيها أصحاب الأهواء سخروها لتحقيق مآربهم، وحماية مصالحهم، وتحولت
بتألّب الانتهازيين والوصوليين والمجرمين
وتحزبهم لبعضهم أداة للقمع والظلم والفساد، واغتصاب سلطة الأمة، وهو ما أشار إليه
الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال :
" لن تقوم الساعة حتى يسود كل قبيلة منافقوها"، وحين قال :"
سيأتي على الناس سنوات خداعات، يُصدق فيها الكاذب، ويُكذب فيها الصادق، ويُؤتمن
فيها الخائن، وُيخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة " قيل: وما الرويبضة ؟
قـال: " الرجل التافه يتكلم في أمر العامة "، وفي رواية :
"الفاسق" وفي أخرى " السفيه " .
إنه ما كان للشورى أن
تضبط بإطارها العام الذي هو الممارسة
الإيمانية، وبإطارها الخاص الذي هو العدل في الرضى والغضب، والتحرر من قيود الحاجة
والخوف، لو لم تكن لها الأهمية القصوى في بناء الأمة وإعلاء شأنها، فهي بنصوص
السنة النبوية نصيحة، قال صلى الله عليه وسلم: " الدين النصيحة، الدين
النصيحة، قالوا لمن يا رسول الله؟ قال :" لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة
المسلمين وعامتهم ". وقال: " من
جاء يوم القيامة بخمس لم يصد وجهه عن الجنة : النصح لله ولدينه ولكتابه ولرسوله
ولجماعة المسلمين " .
والشورى أمر بالمعروف
ونهي عن المنكر، لأن عضو الشورى يبدي رأيه بشجاعة وينتقد الفساد بجرأة ويرشد إلى
الصلاح بوضوح، لقوله صلى الله عليه وسلم :
" لا يحقر أحدكم نفسه قالوا يا رسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه قال يرى أمرا
لله عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه فيقول الله عز وجل له يوم القيامة ما منعك أن
تقول في كذا وكذا فيقول خشية الناس فيقول
فإياي كنت أحق أن تخشى "، وقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يمنعن أحدكم هيبة الناس أن يقول
الحق إذا رآه أو سمعه " .
والشورى صدق ووفاء
وأداء للأمانة لقوله تعالى :(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا
الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: 58)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "
اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة اصدقوا إذا حدثتم وأوفوا إذا وعدتم وأدوا إذا أئتمنتم واحفظوا
فروجكم وغضوا أبصاركم وكفوا أيديكم " .
والشورى صدقة و زكاة،
لما روي عنه صلى الله عليه وسلم : " ما من صدقة أحب إلى الله من قول
الحق".
والشورى شهادة
كتمانها خيانة وتحريفها زور، لقوله تعالى :(وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ)(الفرقان:72)،
(وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (البقرة:283)،
وقوله صلى الله عليه وسلم : " من كتم شهادة إذا دعي لها كان كمن شهد الزور
" .
والشورى حزم، ومظاهرة
وتعاون، ولا حزم أرشد من مشاورة ذوي الرأي واتباعهم، ولا مظاهرة ولا تعاون أوثق من
الاستماع إلى آراء الرجال والاسترشاد بها (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)
(المائدة :2).
والشورى جهاد في سبيل
الله لقوله صلى الله عليه وسلم عندما
سئل" يا رسول الله أي الجهاد أحب إلي الله قال كلمة حق تقال لإمام جائر" .
ولعلنا لا نجانب
الصواب إذا ذهبنا إلى أن أهمية الشورى في حياة الأمة مما جعل تشريعها يرد بنصوص
قطعية الثبوت في القرآن الكريم، وبنصوص من السنة النبوية قطعية الدلالة، قولية
وفعلية، مشهورة ومستفيضة، تكاد تبلغ حد التواتر.
ونظراً لهذه الأهمية
التي تكْتَسيها الشورى، في ميدان الاجتماع والسياسة والاقتصاد وإقامة العدل
والمساواة، نزلت سورتها في مرحلة مبكرة من حياة الدعوة الإسلامية، في المرحلة المكية
؛ فكان نزولها خطوة استراتيجية ضرورية للبناء والتربية ورسم الأهداف البعيدة، وتقديم
ضمانات التوفيق والنجاح، وتمهيد السبيل لبناء دولة الإسلام وحضارته .
وظل الرسول صلى الله عليه وسلم طيلة حياته
الكريمة يدرب الناس على ممارستها، ويحرضهم على الالتزام بها، ويعطيهم من نفسه
القدوة - وهو غني عنها بالوحي - إلى أن توفاه الله سبحانه ولم يصادر حريتهم في
الاختيار؛ فوضع صلى الله عليه وسلم بذلك
أخطر ركيزة سياسية، وأهم آلية لممارسة الشورى بعد انقطاع الوحي بوفاته عليه
السلام. لكن كثيراً من المسلمين بعده صلى الله عليه وسلم لم يستوعبوا هذه الدروس
والعبر والتوجيهات ؛ أعماهم الهوى والجهل، وحب السلطة والصراع على المنصب، وأضلهم
المال وبهرج الدنيا ؛ فنشأ في الفقه
الإسلامي خليط من الاجتهادات المغرضة، والفتاوى المنحرفة، وتاه الفقهاء صادقهم
وكاذبهم إلا من تولته العناية الإلهية، في هذا الركام الفقهي المضطرب، ما بين قائل
بحق الحاكم في الاستئثار بالسلطة، وقائل بالإمام المعصوم، وقائل بوجوب الشورى، ومدع
عدم إلزاميتها، ومنتحل الشرعية لمجالس الشورى أو أهل الحل والعقد، أو البرلمان، أو الشيوخ، أو
النواب(1) .
_________________________
(1)اعتمدنا في هذا المقال على مؤلفات الشيخ عبد الكريم محمد مطيع الحمداوي.
_________________________
(1)اعتمدنا في هذا المقال على مؤلفات الشيخ عبد الكريم محمد مطيع الحمداوي.
د/عبدالوهاب
القرش
دكتوراه
في العلوم الإسلامية