«الدعوة بين الأمس واليوم»
ما تتمتع به الدعوة
اليوم من وسائل كانت لا تملك 1% منه في الماضي، ولكنها – رغما من ذلك - نجحت
بالأمس في إعطاء المفعول وغزو القلوب، ولم تستطع اليوم، ذلك أنها كانت تتفجر من
واقع العمل والصلاح الكامل في نفس الداعية، وإن تحرقه الصادق على سوء حالة المجتمع
الإنساني هو الذي كان يضطره لممارسة عملية الدعوة، فلم يكن المجتمع يعرف "
ازدواجية " في شخص الداعية، فيجده في دعوته وتبليغه وكتبه ، غير ما هو في
واقعه العملي.
في الأمس لم تكن
الدعوة مهنة يمارسها كل من آنس في نفسه أهلية الخطابة والكتابة، وإنما كانت
مسئولية مشرفة يطلع بها ذوو نفوس مشرقة بالإيمان والإخلاص، ومدججة بأسلحة الاحتساب
والتقوى والصلاح، وقد تتأتى أهليه الحديث والقلم بصورة عفوية عندما كانت قيثارة
القلب تريد أن تنطق، أي لم تكن الدعوة صادرة عن مجرد أهلية اللسان والقلم، وإنما
كانت قائمة على قاعدة صلبة من صلاح الداعية وتقواه، وكان القلم واللسان كوسيلة
يستخدمها إذا احتاج إليها، وقد يستغنى عنها في كثير من الأحيان، حيث إن المرء قد
يجلس إلى مثل هذا الداعية أو يراه فيجد في نفسه تأنيبا منطلقا من عمق الضمير،
ويشعر بلمسة إيمانية قوية تخلق فيه الشعور
بآثامه وتقصيره فيما بينه وبين ربه, إن مثل هذا الداعية كان يقوم بعملية الدعوة
بحركاته وسكناته أكثر منها بلسانه وبنانه.. ثم جاء دور الداعية ذو المؤهل الخطابي
واللساني الفائق، المفلس في حرارة القلب وإشراقة الضمير ونور الصلاح الذاتي وحلية
التقوى، فلم يكن المخاطبون لديه نماذج عملية، وإنما وجدوا عنده إرصدة القول وحدها
ونتج من ذلك أن قل شأن العمل، وطغى جانب القول على جانب الفعل.
بالأمس كانت الدعوة
إخلاصا، أما اليوم فأصبحت رياء، وكانت خدمة مشرفة، فصارت مهنة، وكانت عقيدة ورسالة
وذوقا ووجدانا، فأصبحت غرضا شخصيا أو مصلحة حزبية أو اجتماعية، وأمست صناعة وتكلفا،
كانت نابعة من الشعور الملح بالانحراف، والفساد، وتردي الإنسان، وانحلال المجتمع
الإنساني، وشقاء البشرية في حيدها عن منهج الله، فصارت نابعة من الشعور بالحاجة
إلى ترويج الأفكار الشخصية أو من العمالة للاتجاهات المصطنعة ليس لها أي وزن عند
الله في ميزان.
قد كانت الدعوة
بالأمس شرفا قد شرف بالانتماء إلى الداعية الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،
فصارت ذلا قدر ذل الهدف الخسيس الخبيث – على اختلاف صاحب الهدف – الذي يتبناه
الداعية، وكانت شموخا قدر شموخ شخصية الداعي المصوغة في قالب الرسالة العظمى،
فأمست وضاعة قدر وضاعة من يستغل هذا العمل الشريف في التوصل إلى أردأ مطلب.
رحم الله كل الدعاة
السابقين في التاريخ الإسلامي الذين جندوا أنفسهم لأداء هذه المهمة الجليلة عن
طريق الجهاد والاجتهاد أو الخطابة والكتابة والتعليم والتربية، أو أي صورة من صور
الإصلاح والتبليغ والتجديد والدعوة، وكان التقدير والاحترام نابعين من الأخذ بالخلق
الإسلامي الصميم الذي يعلم المرء الاعتراف بالجميل والنظر إلى حسنات الرجل،
والتغاضي لما يكون قد صدر منه، والتماس العذر للسلف الخلصين الذين رووا – كل حسب
طاعته وإمكاناته المتاحة ووسائله الميسرة وظروفة التي عاشها – شجرة الإسلام،
وعملوا على دفع عجلة الدعوة الإسلامية إلى الأمام، فصارت الدعوة
هدى الله دعاة اليوم،
حيث صارت الدعوة – على يد معظمهم - غضا من شأن الدعاة السابقين، وحطا لمكان السلف
الكرام، وهدما لكل شخصية لامعة في الإصلاح والتجديد، والبعث الجديد والدعوة
والتبليغ، وكان هذا الغض والحط والهدم مصدره هو الغرض الشخصي دون الغرض الدعوي
المعجون بالإخلاص، أو الانحراف عن الخط المستقيم الذي رسمه الداعية الأعظم محمد
صلى الله عليه وسلم، وتقيد به الصحابة والتابعون، ومن تلاهم من أجيال.
إن مثل النوع من
الدعاة المعاصرين قد ألحق بالدعوة الإسلامية خسارة فادحة، وقص جناحيها بحيث لا
يمكن بها التحليق المطلوب، فهل آن أن يرتفع مثل هؤلاء الدعاة من هذا الحضيض الذي
أفضى بهم إليه بعض أدعياء الإصلاح؟.
د/عبدالوهاب القرش
دكتوراه في العلوم الإسلامية
دكتوراه في العلوم الإسلامية